صنعاء... الفقر وتدافع الجياع


بشرى المقطري

قُتل، في الـ20 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، 87 يمنياً جرّاء حادث تدافع بشري في أثناء توزيع معونات نقدية من متبرّعين في إحدى مدارس صنعاء. وفي حين تعدّدت الروايات حيال ملابسات الجريمة، فإنها كشفت عن بنية الفقر المتجذّرة في المجتمع اليمني كمشكلة مزمنة تتجاهلها السلطات الحاكمة، ومع تضاعف مستويات الفقر في ظل الحرب، نتيجة استمرار انهيار النظام الاقتصادي وانقسامه بين سلطات الحرب، كذلك نتائج سياساتها في المجمل على المستوى المعيشي للمواطنين، فإن حالة الفقر وأنماطه وقواه أيضا تختلف من مدينة إلى أخرى، وتتباين تبعاً لطبيعة التحوّلات التي شهدتها هذه المدن في الحرب والتحدّيات التي أنتجتها، وقبلها إدارة سلطات الحرب لها وقنوات العمل الإنساني في المناطق الخاضعة لها، وانعكاس ذلك على المجتمع، ومن ثم على الطبقات الفقيرة.
 
خلافاً للتحوّلات التي شهدتها بعض المدن اليمنية في الحرب، وأدّت إلى تغيّر دورها الوظيفي، وموقعها في معادلة السلطة والثروة، بحيث تحوّلت بعض مدن الأطراف من الهامش إلى المركز، بما في ذلك انتعاش بعض المناطق وتحوّلها إلى مدن، فإن صنعاء التي كانت أهم مدن المركز بوصفها عاصمة للدولة اليمنية، ومن ثم لليمنيين، فقدت مقوّماتها الاقتصادية جرّاء عمليات متتابعة ومنهجية من التقويض في الشقّ السلطوي وأيضا الخدمي والإنساني، بحيث أحدث ذلك تحدّيات جذرية انعكست على مجمل مظاهر الحياة اليومية، وعلى المستوى المعيشي للمواطنين، إذ تضافرت التحدّيات المترتبة على حركة النزوح الداخلي مع سياسات سلطة جماعة الحوثي في إنتاج مستويات من الفقر والحرمان، مقابل استدامته ومن ثم استثماره.
 
ففي حين ولدت حركة النزوح الداخلي ضغوطا على مصادر الدخل الضئيلة، وعلى الأمن الغذائي ومصادر المياه الشحيحة أصلا، والتي تمثل مشكلة في صنعاء، بما في ذلك أشكال التكافل الاجتماعي وتقليصها، فإن إدارة سلطة الأمر الواقع للمجتمع ولقنوات العمل الإنساني كرّست حالة الفقر في المدينة، ومع استمرار صنعاء منطقة جاذبة للوافدين لأسباب مختلفة، فإن افتقارها إلى الثروات وهيمنة السلطة الحاكمة على القرار الاقتصادي وعلى موارد الدولة، مقابل تهميش المجتمعات الفقيرة وعدم تأهيلها، يعنيان دفع الفقر في صنعاء مستقبلا إلى مستوياتٍ أكثر خطورة.
 
شكّلت صنعاء وجهة رئيسية للنازحين من مناطق المواجهات، سواء من الجبهات القريبة، كأرياف صنعاء وطوقها القبلي أو من المدن اليمنية الأخرى، فيما مثّلت الحديدة بمديرياتها النسبة الأكبر من النازحين. وعلى الرغم من غياب إحصائية دقيقة عن عدد النازحين داخليا، سواء لعدم وجود مؤسّسات تُعنى بقياس حركة النزوح، وأيضا اندماج قطاعات منهم في المجتمع المضيف، وتحوّلهم إلى شريحة متوطّنة، فإن النازحين يمثلون قواما بشريا كبيرا في صنعاء، ومن ثم هي إشكالية إنسانية تقتضي معالجتها وتمكين مجتمعاتها.
 
ومع أن من الصعب التكهّن بعودة النازحين إلى مناطقهم الأصلية في الوقت الحالي، خصوصا مع تحوّلها إلى مناطق طاردة اقتصاديا، إلى جانب بقاء مخلفات الحرب من الألغام والمواد المتفجّرة التي تتسبّب يوميا بضحايا من المدنيين، والتي تمثل عامل إعاقة لعودتهم إلى مناطقهم، وإنْ تبنّت النسبة الأكبر من النازحين خيار عدم العودة، وذلك لافتقار مناطقها الموارد، فإن استمرار تدفّق النازحين في صنعاء ولّد ضغوطا عديدة على المدينة، حيث إن معظمهم من الطبقة الفقيرة، فإن نسبة مواليدها العالية تمثّل تحدّيا آخر سكّانيا وتنمويا واقتصاديا، ليس في صنعاء فقط، وإنما في مجمل مدن النزوح، وأيضا افتقار الفئة العمرية القادرة على العمل لتأهيل مهني يحرمها من القدرة على إعالة أسرها، بحيث يجعلها قوة اجتماعية معطّلة، ومن ثم عبئا على نفسها قبل المجتمع المضيف.
 
وفي حين إن عوامل النزوح بسبب الصراع قد تظلّ طارئة إلى حدٍّ ما في حال جرى تطبيع الأوضاع العسكرية واستدامتها، ومن ثم إعادة توطين النازحين في مناطقهم الأصلية، فإن النزوح جرّاء الوضع الاقتصادي يمثل عاملا مستداما في ظل استمرار تدهور الوضع الاقتصادي على المستوى الوطني والمحلي، حيث دمّرت سنوات الحرب وسائل الحياة، بما في ذلك المهن في مناطق يمنية كثيرة، وخصوصا الريفية النائية، بما في ذلك الخدمات التي كانت الدولة تقدّمها، وأيضا القضاء على مصادر دخل شرائح كبيرة من المواطنين في تلك المناطق، ما أدّى إلى نزوحهم إلى صنعاء، إضافة إلى نتائج التغيّر المناخي على المجتمعات الزراعية.
 
كما أن تمركز المنظمات الإنسانية الإغاثية الدولية في العاصمة جعلها وجهة للمُفقرين للحصول على المساعدات الإنسانية التي لا تصل إلى مناطقهم، فضلا عن ضمان أشكال من المساعدات من التجار والمتبرّعين، كما أن الانتعاش النسبي للنشاط الاقتصادي، مقارنة بمناطقهم الأصلية، جعل صنعاء مقصدا للباحثين عن فرص عمل، ومن ثم فرضت هذه العوامل متغيّرات عديدة على صنعاء تتعدّى التغيّر الديمغرافي والتأثير على الفضاءين، المدني والحضري، إلى المتغيرات التي تدخلها القوى الوافدة على المجتمع المضيف، سواء طرق حياتها وتقاليدها الاجتماعية والاقتصادية، أو تفاعلها مع السلطة ومحيطها المجتمعي، إلا أن الحصيلة الحالية لحركة النزوح في صنعاء هي تركّز الشرائح الفقيرة والمعدمة، حيث استقرّت مجتمعات هامشية متعدّدة، سواء في المركز الحضري في صنعاء أو في جيوبها ونطاقاتها الداخلية.
 
ومع تباين سماتها ومدى تكيّفها، فإنها عموما تفتقر لمصادر الدخل المستدام، ومن ثم للتأهيل، إضافة إلى وسائل الرعاية والخدمات الصحية، حيث تتحرّك في نطاق محدّد، وهو المجتمع المضيف الذي هو هامشي أيضا، ويعاني من الفقر والتجويع، بحيث أدّى ذلك إلى تضاعف الضغط على القنوات الاقتصادية والإنسانية، مقابل استمرار سياسات التجويع لسلطة جماعة الحوثي.
 
تفرض طبيعة السلطة وسياساتها أثرها المباشر على حياة المجتمع سلبا أو إيجابا، فمع أهمية الموارد وتنوعها في تمكين السلطة من تحسين المستوى المعيشي للمواطنين، فإن إدارة الثروات وتوزيعها بشكل عادل يظلان المحكّ في هذه المعادلة، إلا أن سلطة جماعة الحوثي كيفت أجهزتها وسياساتها لتجريف المجتمع اقتصادياً ومن ثم إفقاره، مقابل مراكمة ثرواتها وتجييش موارد الدولة لصالح حروبها، وأيضا ضمان استمرار سلطتها وشراء الولاءات، فإلى جانب أن تعطيل مؤسّسات الدولة، سواء وظيفيا أو خدميا، مقابل إنتاج تشكيلات موازية لمؤسّسات الدولة، جيرت موارد لقواها الاجتماعية دفع ملايين المواطنين إلى الفقر، فإن خصخصة الخدمات حرمت الفئات التي تعتمد عليها من الرعاية والخدمات، إضافة إلى استمرار وقف دفع رواتب موظّفي الدولة في المناطق الخاضعة للجماعة، ما يعني تحويل قطاعات الموظفين إلى شرائح معدمة.
 
كما أن انتقال القرار الاقتصادي من صنعاء العاصمة إلى جماعة الحوثي سلطة الأمر واقع شكّل عاملا إضافيا في إفقار المجتمع، ففي مقابل حصر النشاط الاقتصادي والتجاري في أجنحتها، والشبكات الاجتماعية والسياسية المتحالفة معها، فإن سياستها الاقتصادية ضاعفت من تقييد النشاط التجاري، ومن ثم أضرّت بالمواطنين؛ فإلى جانب التحدّيات التي يواجهها، جرّاء سنوات انقسام المنظومة الاقتصادية، والتي أحدثت مشكلاتٍ بنيويةً وسيولة، فإن استمرار تضييق الجماعة على الحركة التجارية، سواء باستمرار فرض الضرائب أو الإتاوات أو باشتراطات المقاسمة دفع بهجرة رأس المال من صنعاء، ومن ثم فقد آلاف اليمنيين فرص العمل.
 
تضاف إلى ذلك، وهي الأهم، النتائج المترتبة على سياسة التجويع التي تمارسها سلطة الجماعة في المناطق الخاضعة لها، إذ إن استمرار إدارتها المجتمع بالأزمات كرّس حالة الفقر، حيث لم تحسّن التهدئة العسكرية بين المتصارعين، والتي كان يعوّل عليها في تطبيع الحياة على الصعيد الإنساني، سواء في صنعاء أو غيرها من المناطق، ولو القليل من المستوى المعيشي للمواطنين، وإن أسهمت في انتعاش سلطات الحرب اقتصاديا.
 
 واستمرّت استراتيجية التجويع، من التلاعب بأسعار العملات الأجنبية من خلال سيطرتها على شبكة المصارف، ورفع أسعار المواد الغذائية وإيجارات السكن، إلى سن قانون يتيح لها التصرّف بودائع المواطنين في البنوك التجارية، إلى جانب فرض مزيد من الضرائب على المواطنين، والتي شملت، أخيرا، قطاع العقارات.
 
وإذا كانت السياسة التجويعية تدفع كل يوم جموعا من اليمنيين في بلدهم إلى حالة الفقر والحاجة، فإن الطبقات الفقيرة من الوافدين والنازحين تواجه مصيرا أكثر بؤسا؛ فإلى جانب الصراع اليومي على مصادر الدخل، تتضاءل إمكانات مستويات التكافل الاجتماعي البيني جرّاء حالة الإفقار، ومن ثم جعْل المجتمع المضيف والوافد يعتمد على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.
 
 
في الحروب، يبقى العمل الإنساني والإغاثي، وأيضا شبكات الدعم المجتمعي، القناة الرئيسية لدعم الطبقات الفقيرة، وإن لم يؤدّ في الحالة اليمنية إلى نتائج مستدامة، فهو بيد سلطة النهب والجباية التي أعاقت العمل الإنساني في تدخلها بسياسات المنظمات الإنسانية الإغاثية الدولية وتقاسم المساعدات، ما أدى إلى تقييد عملها، سواء بربط نشاطها بموافقة جهاز مخابراتها والإشراف عليها، وكذلك استمرار التحريض على العاملين المحليين في المنظمات الإغاثية، وكذلك تقييد تنقل المرأة، وذلك باشتراط المحرّم، ما أدّى إلى الإضرار بالعمل الإنساني.
 
كما أن حرص جماعة الحوثي على احتكار العمل الإنساني، بمختلف قنواته، ضاعف من حدّة الفقر في صنعاء، حيث منعت التجار من تولّي أي شكل من تقديم المساعدات الإنسانية للفقراء، خوفا من أن يتحوّل إلى غطاء سياسي للمناوئين لها لاستقطاب أنصار لهم، فيما فرضت مؤسّسة الزكاة التابعة لها، بوصفها الجهة الرسمية الوحيدة المنوطة بالعمل الإنساني في المناطق الخاضعة لها.
 
ومع أن هيئة الزكاة تمتلك موارد عديدة، سواء من جباية الزكاة من المواطنين والتجار، بما في ذلك التبرّعات والإتاوات، فإنها لم تخدم بأي حال الشرائح الفقيرة، فإلى جانب فسادها جرّاء غياب أي شفافية حيال عملها ومصادر تمويلها وكيفية إنفاقها، فإنها تحوّلت إلى وسيلة لشراء الولاءات من الجماعة ولخدمة أغراضها. ومن ثم وفي ظل استمرار سياسة التجويع، واحتكار العمل الإنساني واستغلاله، إن وفاة عشرات من المواطنين في صنعاء، في حادثة التدافع، وإن شابها غموضٌ كبير، بما في ذلك أخبار عن إطلاق النار من مجهولين، ما تسبّب بالتدافع، لم تكن سوى تجلٍّ لإحدى صور فقر مجتمع في حضيضه، بحيث أصبح الحصول على المعونة الخيار الوحيد للنجاة، في تضادٍّ مروّع ومفجع بين سلطةٍ تحتكر كل شيء، ومجتمعاتٍ هامشيةٍ مفقرة.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر