اغتراب


سلمان الحميدي

 مع الحرب دبت رغبة الاغتراب في كل بيت، البيت الذي ليس له مغترب، تستوطن بداخله فكرة الاغتراب على الأقل. أتحدث عن الشباب في قريتي، والقرى المجاورة لها.
 
كان المغتربون قلة يعرفون في القرية باسم البيت الفلاني، ثم الآن: عشرون، أربعون، وفي الأشهر القليلة الماضية، ارتفع العدد إلى سبعين مغترباً من القرية، يبحثون عن الحياة بعيداً عن الحرب التي طالت، نفد صبرهم وتشظت الآمال، لم يبق إلا الغربة لتحقيق أدنى مستوى للعيش، إن كانت المعيشة الكريمة متوافقة وممكنة مع مستويات التدني.
 
لم يعد لنا مقيل كما أننا لا نلتقي، هكذا يقول لك من تبقى في البلاد، القرية شبه فارغة، الحياة تضيق أكثر كلما اتسعت المليشيا، ومنذ استحداثهم لنقطة مسلحة في السوق، حتى كبار السن لم يعد يذهبوا إليه لبيع القات أو شراء الوزف. ما زاد من ضيق فوق الضيق هو إجراءات المليشيا بمنع تداول العملة "الطبعة الجديدة". إذا بعت شيئا مثل القات تبقى زمناً تطالب بقيمته، يقولون لك: من أين أدبر لك "بيس قديم". الناس ملوا.
 
في البلاد، حاول كثير من الشباب أثناء الحرب، اللجوء إلى بيع القات، وأحياناً المتاجرة بالبترول والديزل في السوق السوداء، أو العمل على دراجات نارية، كان تسيير الحال يجري بهذه الطريقة، حتى ضيقت المليشيا على الناس في كل شيء، صادرت الدراجات واعتقلت بعض أصحابها، وامتدت يدها الباطشة إلى كل من يملك جيباً بذرائع مختلفة، حتى تردد الصدى من أعماق كل نفس: "ليل وا ليل بُه.. مابقى إلا الرحيل".
 
كنا نعرف أن السعودية وجهة اغتراب اليمني، الشيوخ ومن تلاهم لا تنفد ذكريات غربتهم في المملكة، النجارة والسقاء، جبل عبادي، وبيشة.. حتى المتأخرين من أبناء القرية، لا يعرفون أي دولة غيرها ليعملوا فيها، وفي الآونة الأخيرة أيضاً كل من امتلك قيمة الفيزة اتجه إلى المملكة، لا يعرف أين سيعمل ولا ماذا سيعمل؟ يريد الفكاك من ضيق الواقع وجحيم المليشيا، غير آبه بالمصير أو إجراءات العمل، أو اكتظاظ العِزَب بالعاطلين.
 
في الأشهر القليلة الماضية، بدأ اسم ثلاث دول يتردد في البلاد، هذه الدول الثلاث التي سيذهب إليها أبناء القرية لتجربة الاغتراب: عُمان، الأردن، جيبوتي.
 
الذين غادروا باتجاه عُمان، كانوا على استعداد أن يعملوا أي مهنة ولو كان فيها العذاب، الأهم هو أن لا يروا واقعهم البئيس، أحدهم قال بأنه سيعمل "حجنة" أي محفر لينكش حول الأشجار في مزرعة ما، لكن هؤلاء الشباب ظلوا لنصف شهر في المنفذ، وربما أكثر، وعادوا خائبين، لقد تعرضوا لخديعة صادرت ما في جيوبهم أو ما استلفوه.
 
ومن عُمان، إلى عمّان، عجائز القرية الأميات، أصبحن يعرفن اسم عاصمة الأردن، إذ صار للقرية أربعة شبانٍ يعملون في المطاعم، كما ينتظر اثنان تأشيراتهم للاغتراب هناك.
 
في جيبوتي، ذهب ثلاثة إلى هناك قبل أن يغادروا إلى دولة أخرى ليرزحوا في السجن، بيد أن شخصاً رابعا استقر في جيبوتي، ما أغرى صاحب دراجة لبيعها واللحاق به، ولكنه عاد بعد أسبوع، وعن أسباب عودته قال: لا بلادهم بلاد، ولا جوهم جو، ولا أفهم الناس مويقولوا..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر