جَمَالٌ يستوطن المقبرة


سلمان الحميدي

تزدحم طرقات الريف في عيد الفطر المبارك، تبهرك بالألوان، وترف عينك من لمعان الرؤوس المدهونة. الطريق مزدحم بالمارة المتزاورين، زيارة حميمية من السنة للسنة، الأهل يزورون الأهل، وأنت تصادف صديقك في الطريق مع إخوته وأطفالهم، إخوتك وأطفالك معك، في رؤوس الأطفال تحتدم حسبة العيديات المتوقعة، وفي رأسك أنت، من أين توفي المبلغ إن نقص؟.

حتى وإن كانت الجيوب فاضية، فثمة ابتسامة وعذر يزركش صبح العيد. في الطريق تأكل الغلثى تجنباً لتداعيات إعادة تموضع المعدة. الواجب أن تطيب قريباتك اللواتي ستزورهن بأكل شيء من الأطباق المُقدمة، كعك وفشار، زبيب وشوكولا، عصير وفيمتو، وكأس من اللبن الطازج عند من يملكون الأبقار. أكثر الخائفين على مِعدِهم يلوكون أوراق القات كي لا يأكلون شيئاً عند أحد..

الطريق ملأى بالمارة، الغالبية منهم ـ وخاصة الكبار ـ لم يناموا، لن يستطيعوا ضبط ساعتهم البيولوجية بليلة، ستُشعرهم الشمس أنهم غُبر ويشعرون ببعض الإرهاق، ولكنهم لا يستريحون. الطريق تستدعي خطاك، لا تتوقف إلى قبل الظهيرة. 

تأخذ طرقات الريف، شكلاً مغايراً صبيحة عيد الفطر، الناس أيضاً وإن كانوا مرهقين يأخذون شكلاً مغايراً، وكان قبل الحرب، يتوافد أبناء المدن إلى أهاليهم في القرى، فتزداد الطرقات بشاشة.

*  

في المدينة لا معنى للطرقات المكدسة بالزبالة، الفرحة مرتسمة على ملامح الناس ولكنها ناقصة، المدينة محاصرة، وحميمية العيد ناقصة، صحيح أنك تشعر بأن الجميع أهلك، وبإمكانك مزاورتهم، ولكن لا شيء يستدعي خطاك ويلفت عينيك، لن تلحظ شيئاً من جمال الطريق كما هي طريق الريف..
ـ أين تذهب إذن؟ 
ـ المقبرة..

بعد صلاة العيد ذهبت إلى واحة الشهداء، هناك ـ فقط ـ شعرت بالحميمية ورأيت الجمال، كانت المقبرة مزدحمة بالزوار والزائرات، صغاراً وكباراً، تكالبت المشاعر ومُزجت ببعضها، الشهداء أهل واليمنيون أهل الشهداء، كأننا نعرف بعضنا من زمان، كأن مقبرة الشهداء هو بيت اليمنيين الكبير الذي يجمعهم في المناسبات، ها نحن نسلم على البعض، الأطفال يجولون حول القبور. شعور غريب: فرح وحزن، تتجعد الجِبَاه، والشفاه تحاول التبسم، جنود يحتلقون على قبر قائدهم، صديق جالس جوار قبر صديقه، عائلة بكاملها في طريقها إلى قبر فقيدها، زوج وزوجة على ضريح يجمع ثلاثة من أطفالهم أخذتهم قذيفة، تفوح الروائح في الأرجاء: رائحة البدلات، العطر، المشاقر، وشيء من عبق الجنة..

على جدار القطعة الأولى من الواحة، رأيت امرأة تذرف دمعها بيدها المحناة، تترحم على ابنها الشهيد..

في القطعة الثالثة، رأيت إحدى الأمهات مع طفلتيها على قبر والدهن الشهيد، كانت تطلب منهن أن يقبّلنه، الطفلتان تنحنيان إلى شاهد القبر، حيث اسم والدهن ويمطرنه بالقبلات.. في إحدى المرات طلبن من أمهن أن تلتقط لهن صورة وهن يقبلنه..

على ضريح آخر، يصعد الأطفال، أحد الكبار يزجرهم، يطلب منهم الابتعاد إلى جانب القبر كي لا يؤذوه وجدتهم ترد: دعهم يلعبون على صدره ويصعدون فوق رأسه، كان كذلك عندما كان بينهم، هو بينهم الآن، أقصد قبل أن تسكن رصاصة القناص قلبه.. 

الرصاصة خرجت، وبقى فيه الأطفال والبلاد..

وجدنا العيد في واحة الشهداء.. الجَمَال يستوطن المقبرة..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر