أنا والضوء في مأرب


سلمان الحميدي

 1
أول ما خَطَف بَصَري في مأرب؛ الضوء. وَصَلتُ وكأنّي لا أعرف الكهرباء، وكأن الظلام الدامس لحياة اليمني قد امتد من الليل إلى النهار منذ انتِفَاشَة المليشيا.
 
سافرت مع عدد من الزملاء، وكنا قد نسقنا مع زملاء في مأرب ليحجزوا لنا في أحد الفنادق. انضم إلينا عامل الفندق في المصعد، أمام باب الجناح المقرر أن نستقر فيه، وضع العامل بطاقة "ممغنطة" على مغلقة الباب فانفتح. فَرَكتُ عيني دَهِشَاً؛ يبدو أن سهر الرحلة في الطريق المضني قد أثّر عليّ، صاحبي أيضاً التفت نحوي وابتسم: «موذه واسلمان؟»، سأل.
 
وَضَع العامل، البطاقة ذاتها، في مكان مُخصصٍ لها جوار المقبس، اشتغلت الأضواء في الجناح، قال لنا: عندما تخرجون خذوا البطاقة، لينطفئ كل شيء، ولفتح الباب بها عندما تعودون.
 
2
لم أَسْتَرِحْ، ذهبت للمقيل، وطيلة الجلسة وأنا أرى إلى ذلك الجهاز الغريب المُثبَّت أعلى النافذة، يستحوذ على مساحة 80 سنتيمتر وارتفاع عشرين سنتيمتر تقريباً، ينفث هواءً بارداً، يا للروعة، أخيراً عرفت المُكيّف..
 
3
 عندما ذهبت إلى النوم في الغرفة، ووضعت البطاقة في مكانها المخصص، أضاءت الغرفة من كل زاوية؛ تحركت المروحة ونفث المكيف هواءً باردًا.. لحظات ارتباكٍ وخوف من أن تلمسني الكهرباء، كنت بين خيارين: نزع البطاقة والاكتفاء بالأضواء الوافدة من أعمدة الإنارة في الخارج، أَو تَجْربة المفاتيح الموزَّعة على جدران الغرفة..
 
مَذْهَبِي دائماً خوض التجارب، وإن بدت فاشلة من خَطراتها الأولى؛ نزعت البطاقة وعكست كل المفاتيح مرة واحدة، ثم أعدت البطاقة وبدأت سبابتي بالطيش على عُلَبِ المفاتيح عُلبةً علبة: ضوء أصفر، ضوء أبيض، ضوء أخضر، ضوء أحمر، وكلّما سَنَا ضوء لون، أدير رقبتي بفم منفغر، ربما أقوم بعملٍ خَاطِئ، ربما تكون هذه "الأضوية" إنذار لشيء قادم؛ كأن نحذر من صاروخ باليستي على وشك أن تطلقه المليشيا، أضغط على كافة المفاتيح لأهضم الصدمة، أستردُّ نَفَسي، وأُعيدُ تشغيلها مرة أخرى ببطء وهدوء، قبل إغلاقها والذهاب إلى السرير.
 
4
على المنضدة الخشبية المُتاخمة للسرير، مُجسّمَاً زجاجياً لنجمة شفافة، عشت اللحظة كفضولي أَلِفَ العتمة التي أنعشتها المليشيا في بلاده، فضولي أتعبته البطاريات والأسيت والألواح الشمسية، وخراب توصيلات الشحن، ثم تبدأ قناديله بالإظلام التدريجي من التاسعة مساءً..
 
 لا مانع من تجربة المفاتيح المتصلة بواجهة السرير؛ ضغطت على المفتاح الأول وأنا بحالة أرق وتعب وانذهال، اشتغل ضوء أصفر من حواف السرير، ظننت أن هناك خطرا يحيط بي، ضغطت على بقية المفاتيح بخوف، فبرق ضوء بلون أزرق خافت من تحت السرير، وأضاءت نجمة مأرب، وشعرت ببرق الفاجعة يومض في دمي، طقطقتُ المفاتيح المذهبة سريعاً وأنا أتعرق..!!
 
استرحت قليلاً ريثما أَستَرِدُّ النَفَس، وبهدوء، أضغط على المفتاح الأول وأستوعب الإضاءة، وكلما تبين ضوء واستوعبه عقلي، أضحك منِّي عَلَيْ، وأخشى أن يعلم خالي محمد بالأمر فينشرني للناس.
 
كنت أتعرق، لم أحب المروحة، أخشى أن تسقط. أريد لذلك الجهاز الرهيب أن يعمل، تبدأ جولة أخرى مع المفاتيح و"الأضوية"، حتى عرفت مفتاح المُكيِّف، وتكيفت معه. أخذت جهاز التحكم بالمكيف، كان يعمل بدرجة 30، وأنا "مصدور" (أي وجيع الصدر)، قمت بخفض الرقم إلى 17. كانت الغرفة باردة جدًا، ولكني نمت ملتفاً ببطانية ثقيلة وجهاز التحكم في يدي.
 
5
في الأيام الأولى، لَم يَنْقطع انبهاري بالضوء، وبالهاتف الثابت، وبالأمن، وبالهدوء، وبحركة العمال الذين يقومون بتصليح الشوارع في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. كأن مأرب تقوم بإعادة تشغيل الحياة التي أوقفتها المليشيا، ولذا كنت أُحِدِّق في كل شيء له علاقة بالحياة عموماً، وبالكهرباء خصوصاً، وعند النوم، أمتد وبيدي جهاز التحكم الخاص بالمكيف.
 
كنت أقوم بتشغيل المكيف، فأشعر ببرد قارس، مع أني كنت حريصا كل الحرص، أن تكون درجة التبريد أخفض درجة وهذا يعني أن تكون أخفض رقم، وهو رقم 17، ومع ذلك كنت أشعر بأن صدري يتَثَلّج.. أُطْفِئُ المكيف فأشعر بالحر، أَلْعن الغبي الذي صنع هذا الجهاز، ونسى أن يواصل تخفيض درجات التبريد حتى الرقم 1؛ "مو كان شيقع به؟" أقول لنفسي متسائلا.
 
صدري يؤلمني، وأرفض التوقف على حالة واحدة: تشغيل المكيف أو لا. ذهبت للصيدلية واشتريت مضاد "الهيستامين"، أنام وبيدي جهاز التحكم، أَبْتَرِد فأُطفئ الجهاز، أنام قليلاً فأشعر بالحر والعرق، أعيد تشغيله وأندس تحت البطانية، وهكذا كان نومي: طفّي الجهاز.. شَغِّل الجهاز، عليه اللعنة ما صنع..!!
 
في اليوم السادس، تواصل معي الزميل علي الجرادي، مراسل قناة بلقيس، اتغدينا سوياً وأخذنا القات، كان ثالثنا العزيز صالح السلامي، وعندما كنا حَيَارَى في المكان الذي سنجلس فيه، قلت لهم يوجد في غرفة الفندق مجلس. عدنا إلى الغرفة، وأول ما وصلنا ووضعت البطاقة واشتغلت الأضواء من كل مكان، بدأنا بالتخزينة وشعرنا بالحر، قام علي بتشغيل المكيف، كانت الدرجة 17، قام بضغط الزر الذي يرفع الأرقام حتى وصل إلى 25، بعد دقائق أخذت منه جهاز التحكم وأنا أقول له: وطّي المكيف قليل، وثبت درجة التبريد على الرقم 19، فما كان من الجرادي، حين استشف أني جاد فيما أفعل، إلا أن انفجر ضاحكاً، وهو يقول: أفدى قلبك يا سلمان..
 
ذلك اليوم، عَرفت أن أقل درجة برودة للمكيف هي 30، يعني كلما كان الرقم صغيراً كانت البرودة أكثر، والعكس. طلبت من علي وصالح ألا يخبرا أحد بالأمر، كي لا تصل الحكاية إلى خالي محمد.
 
6
مع الأيام، تعودت على ضوء مأرب؛ أعمدة الشوارع، وأشرطة الزينة المُضاءة على الأرصفة والجولات، حتى جاءت ليلة العيد..
 
في ليلة العيد، جلست مع أصدقاء جدد عرفتهم لأول مرة، أو أعرفهم من الـ “فيس بوك"، كنا في باحة استراحة جميلة، باحة مفتوحة بحيث يستطيع الإنسان أن يقلب بصره بين السماء والأرض. جلست بمحاذاة "مشاقر" مزروعة في زوايا مخصصة لها. انشغلت عن النقاشات الكبيرة مع أصدقائي بتأمل العامل الأثيوبي وهو يقوم بتحضير الجمر لـ"الشيشة"..
 
فجأة التمع ضوء فسفوري من كل مكان، حتى من حواف جزيرة "المشاقر" التي بجواري، فزعت وارتبكت، قبل أن أتبين أن العامل الآخر قام بتشغيل أضواء الزينة في الاستراحة، بعدها بدوت طبيعيا كي لا يكتشف أصدقائي فزعي وتصل التفاصيل إلى خالي محمد..
 
7
استوعبت شكل الحياة الجديد في مأرب؛ الحياة التي وضع الحوثي بينها وبين اليمنيين قطيعة وحواجز. وبقدر فرحتي واطمئناني لنموذج مصغر وجميل في مأرب، كان حزني على قدرنا كيمنيين محرومين من أبسط الخدمات، يمنيون تتعرض حياتهم للتخريب، للعودة إلى البدائية، كي يتسنى لعبد الملك وأسرته امتلاك رقابهم.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر