المُهرِّبُون


سلمان الحميدي

كان المُهَرِّبُون يمُرُّون ليلًا من قُرانا، لم يكن أبناء القرية والقرى المجاورة يعرفون ماذا يُهِرِّب المُهرِّبٌون؟ وماذا يحملون فوق سياراتهم المُقَفصَّة؟. لم يكن الناس يسهرون كثيرا في تلك الليالي، ولم تكن البنادق منتشرة بكثرة، ولا الشباب يراوغون أحلامهم الطائشة بالسهر المتواصل، إضافة إلى ذلك لم يتمكن الناس من تحديد الوقت الذي يمر فيه المهربين حتى يتقطعوا لهم.
 
كثيرون مِمَّن سمعوا عن سيارات التهريب، كَمَنوا لاصطيادِها، ولا أحد كان ينوي التعاون مع الدولة: يقطع المُهَرِّب مسافة هائلة من الحديدة أو المخا، يمر من خلف نقاط أفراد الأمن المركزي ذوي البنية الضخمة، ومن عُزَل مشائخ كبار، ولا يمكن لأبناء خُبَاءة وما جاورها أن يكونوا وطنيين بعد هذه المسافة الهائلة! ثم إن لآبائهم موقفًا لم ينسوه من أواخر السبعينيات، أيام حرب الجبهة. في ذلك الوقت العصيب، حيث كانت الطرق خالية من السيارات، بشّت الطريق الوعرة بين القرى لسيارة واحدة في الليل، نزل الساهرون لرؤية هذه المعجزة ونوع محركها، ولكن السائق لم يقف، أو يلقي إليهم السلام..
 
 اجتمع الفضول مع الشك حول السيارة وما بداخلها، قرر أبناء القرية مطاردتها، كانت الليلة مقمرة واستطاعوا رؤيتها بعد ساعات وقد توقفت وأفرغت حمولتها إلى سيارة أخرى، خمنوا، لا بد أنه مهرب، وصلوا إلى السيارة المعطلة، كانوا يريدون معرفة ما بداخلها فقط، جثث، عاهرات، ألغام، مخدرات. فتشوها، ووجدوا ثلاث قوارير خمر مكتوب عليها اسم المورد: قلالة.
 
تأكدوا: مُهَرِّب خُمُور..
كان بإمكانهم العودة بالسيارة كغنيمة، لكنهم ساروا بعد إحساسهم الوطني في اللحظات العصيبة: «تسليم سيارة المهرب للدولة» واختلفت تخميناتهم حول مكافئة الدولة لهم، على هذا الفعل العظيم بالوقت العصيب، وتسليم رأس خيط التهريب للدولة والذي سيفضح مهربي الألغام والمخدرات.
 
قام أبناء القرية وقتئذ، بإصلاح السيارة على حسابهم وإيصالها لمركز المحافظة وسط المدينة، فتم ركن السيارة في الحوش ولم تعطهم السلطات شيئا: قالوا لنا شكرا وهم فرحين!.
 
سهر القرويون الأبطال في المدينة، في الصباح لم يجدوا السيارة في الحوش، غير أنهم تتبعوا خيط القصة، فلم يجدوا خيطا دقيقا، وإنما حبلا متيناً بين المهرب ومسؤول كبير في الدولة، وخوفا من الزج بهم في السجن بتهمة الحرابة، عادوا سريعًا إلى القرية، وبعد شهر كانت السيارة نفسها تمر بين القرى وكان الحس الوطني قد انخمد، لهذا لم يعترضها أحد.
 
انتقل عدم التعاون مع الدولة بخصوص المهربين، من الآباء للأبناء، وقبل واحد وعشرين سنة، عندما بدأ الناس يتحدثون من جديد عن سيارات مهربين تمر من بين القرى، كان الجميع ينوون التقطع لتلك السيارات لغايتين: الأولى: الحصول على مبالغ، والثاني: معرفة ماذا يهرب المهربون؟.
 
طيلة شهر تموز لم تمر سيارة، حتى انتشر الشك في قرية خباءة والقرى المجاورة لها، ربما للمهربين عيون من أبناء القرية نفسها؟ ولهذا ترك الجميع مواقعهم، حتى أتت الليلة التي ابتسم فيها الحظ لغالب.
 
كان غالب يسكن بالقرب من طريق فرعية لم يفكر أحد أن تكون طريقاً لمهرب، على جنبات الطريق الترابي تنتشر أشجار الآراك الكثيفة، وأبعد منها قليلا يوجد أقدم مقبرة وأوحشها، تدور الحكايا حول تاريخ سكانها وأشباحها المتتطايرين في الثلث الأخير من الليل.
 
ظل غالب مثل الشبح، يلوك القات قرب الطريق حتى الثلث الأخير، ومرت سيارة مُقفصة. توقفت السيارة، ومد السائق لغالب بخمسمائة ريال دون أن يتبادلا كلمة واحدة، فكّر غالب في اليوم التالي أن صاحب السيارة من المهربين، فَرَابَطَ في الطريق ليالي عديدة حتى جاء المهرب مرة ثانية، فأوقفه هذه المرة، ومد المهرب بخمسمائة..
 
استطاع غالب تحديد الليالي التي يمر فيها هذا المهرب بالتحديد، فكان يصنع الكمين في ليلتين كل شهر، ولم يعر المهربين الآخرين اهتماماً.
 
تسلل الطمع إلى نفس غالب، الخمسمائة لم تعد تكفي..  فكر بحيلة لرفع مبلغ التقطع على المهرب، وبمجرد أن ساق الريح صوت سيارة إلى أذنه، أشعل سبع سجائر مونتانا، ووزعها على الشجر. وصل المهرب فأوقفه غالب، مد له السائق بخمسمائة ريال، نظر إليه غالب بتهكم، ورمى بالخمسمائة إلى وجهه: ما تكفيش.. شوف كم معي أفراد بالتبة.. نظر المهرب إلى السجائر المشتعلة، وضاعف المبلغ..
 
في المرة التالية، قام غالب بذات الحيلة، إشعال السجائر وتوزيعها على الشجر، لكن مع اقتراب وصول سيارة المهرب، نزل المطر الخفيف، ولم ينتبه غالب للسجائر، أوقف السيارة، فمد له المهرب بخمسمائة ريال، نظر إليه غالب بتهكم وقطع الخمسمائة: ما تكفيش.. شوف كم معي أفراد بالتبة..
 
نظر السائق إلى التلة المطلة على الطريق، ثم نظر إلى غالب ودفعه إلى سياج الوادي المكون من الأغصان الشائكة للسدر والقرظ، وانطلقت السيارة بسرعة البرق، وهنا عرف غالب خطورة المهربين، وعرف أن الهثيم يطفئ السجائر المشتعلة، ولم يقم إلا بعد شهر تقريبا لاستعادة الأعقاب اليابسة!.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر