طوال سنوات الحرب لم تتمكن قيادة معركة التحرير الوطني من تعبئة الشارع بصورة مناسبة تلائم أجواء المعركة. وبالرغم من المحطات الكثيرة التي منحت الحكومة فرصة كبيرة لاستثمار الزخم الشعبي والتحشيد للمعركة، إلا أنها كانت تفرط بها وتفشل في التقاط اللحظة لرفع درجة الحماسة الوطنية لمستويات عليا..
 
وعلى العكس مما يجب، كانت القطاعات الشعبية المؤيدة للجمهورية تتداعى، بشكل ذاتي، وتتجلى لحظات يبلغ فيها الحماس الوطني ذروته، دونما أي ردة فعل مقابلة من الحكومة لمواصلة شحن الوجدان القومي بما يخدم المعركة!!
 
لقد شهدنا محطات وأحداث اصطفت فيها الجماهير بهتاف واحد، وغابت القيادة القادرة على اذكاء صدورهم، واستدامة لحظات الزخم الوطني بشكل متواصل، يُبقي المجتمع في حالة يقظة، بل ويمنح القيادة دافعية أكبر للعمل بجهد مضاعف.
 
عندما تكون في معركة وطنية مفتوحة- حتى لو كنت تخوض معركتك في ظل دولة راسخة وقادرة على خوض الحروب بذاتها، ودونما حاجة لأي اسناد شعبي- في كل الأحوال، تظل بحاجة لاشراك المجتمع في المعركة بأي مستوى كان..
 
 فمجرد مخاطبتك للناس، وإفصاحك عن حاجتك لهم، هذا السلوك يبث في المجتمع حالة من الشعور بالمسؤولية الذاتية عن دوره في المعركة. كما أنه يُنشِّط الشعور القومي، ويُبقي الجماهير في حالة من التأهب والاستعداد للتضحية جوارك، ويعزز من متانة الروابط بين قيادة المعركة والمجتمع..
 
فما بالك لو أنك تخوض معركتك بدولة متواضعة القدرات، وحكومة غير مستقرة، وموارد معطلة، وتحالفات متناقضة وقوى داخلية غير متحدة كليًا. في هذه الحالة تكون حاجتك للاستناد على المجتمع مضاعفة. فالجماهير المناهضة للحوثي، من كل المشارب، تتمتع بدرجة رفض موحدة وعالية تجاه الحوثي. ومن مزايا هذا الرفض الشعبي أنه غير متأثر كثيرا بالشقاقات الداخلية على مستوى النخب الجمهورية، وهذا ما يجعل من التعبئة الشعبية عاملا أشد أهمية. فهو ليس مهما لجهة إسناد الحكومة في حربها ضد الحوثي فحسب؛ بل يمثل عامل احراج للقوى الجمهورية المتصارعة، ويدفعها- بشكل لا شعوري- لتجميد معاركها الصغيرة لصالح المعركة الكبرى.
 
أي أن التعبئة الشعبية تلعب دورين مهمين هنا: منح المعركة دافعية أكبر؛ وتقوية الحكومة لجانب فرض حالة من التوحد الداخلي بين قيادات القوى الجمهورية. فالضغط الشعبي ينعكس أثره على الواقع وعلى قمة الهرم السياسي والإداري أيضًا.
 
لكن؛ ما هو ملاحظ في الحالة الجمهورية الراهنة، أن قيادة معركة التحرير تبدو ضعيفة جدا في قدراتها التواصلية مع الجماهير، بل إن استعداد الجماهير والقابلية الذاتية لديهم لاسناد الجيش أكبر من استعداد الجيش والقيادة على لعب الدور من جهتهم، واستنفار المجتمع بما يخدم المعركة، ويوفر دوافع إضافية لاستمرارها..!!
 
في الجهة المقابلة للطرف الجمهوري؛ يتجلى أمامنا الحوثيين، وقدراتهم الفائقة في استنفار المجتمع الواقع تحت سيطرتهم، وتكثيف خطاباتهم الحماسية، وأنشطتهم التعبوية، على امتداد سنوات الحرب. على الرغم من أنهم لا يتمتعون بمشترك قيمي صلب مع كامل المجتمع الذي يتخاطبون معه؛ حيث يسيطرون على مدن ليست جميعها متناغمة مع توجههم الأيديولوجي، ومع ذلك تمكنوا من توليد شعاراتهم الحربية، والمحرضة للمجتمع، ونجحوا في ذلك بدرجة كبيرة.
 
إذ لا يوجد جماعة في التأريخ اليمني الحديث، تمكنت من شحن المجتمع وتسخيره في حروبها- لدرجة استنزاف كل القنوات الممكنة للتحصيل المالي والبشري- مثل الحوثيين. صحيح أنهم استنفدوا كل طرق التعبئة، وبصورة قسرية، أحيانا، ومتطرفة؛ لكن ما نعنيه هنا: كيف أنهم نجحوا في استدامة سلطتهم، وتغذية حروبهم، بالاتكاء على المجتمع نفسه- بصرف النظر عن صحة الطرق المتبعة، ومشروعيتها، وأخلاقيتها؛ فالمقصد هو درجة نجاحهم في تفعيل مصادر إسناد مجتمعية، على كل المستويات.
 
أمام النموذجين- وحين تضع القيادة الجمهورية، مقابل القيادة الحوثية، في مسألة التعبئة الشعبية- تشعر بهوة كبيرة؛ فالقيادة الجمهورية، وبالرغم من كل ما تتمتع به من قدرات تحفيزية عالية، تجعلها قادرة على تفعيل جماهيرها بصورة أعلى، إلا أنها لم تمنح هذا البعد اهتماما أكبر، وفرطت بعنصر مهم في معركة التحرير، هو البعد الشعبي، ودوره في الدفع بالمعركة، ومدّها بعوامل الحيوية والانتصار.
 
مع بدء المعارك الأخيرة ضد الحوثين، تابعنا دعوة مباشرة وصريحة لدعم الجيش الوطني، وفتح حسابات للتبرعات لصالح الجيش، وخرج علينا محافظ تعز بدعوة في ذات السياق للتعبئة؛ إلا أن هذه الدعوات لم يتبعها نشاطات متتالية لخدمة الفكرة، وسوف تظل دعوة لحظية عابرة، تفتقد لخطة شاملة ومتواصلة، تتمكن فيها القيادة الجمهورية من الحفاظ على مكسب الحضور الشعبي على امتداد المعركة..!!
 
الخلاصة:
"في الحروب؛ تنجح الأطراف والجماعات، القائمة على فكرة أحادية، في التطويع الإجباري للمجتمع وخدمة أجندتها، أكثر من الأطراف ذات المنزع الحُر". هذه الفكرة، التي أوردها الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي الشهير مونتيسكو، تنطبق تماما على طرفي المعركة في اليمن، الحكومة الشرعية ومليشيا الحوثي، حيث الأخيرة أكثر كفاءة في فرض حالة من الامتثال الشامل على مناطق سيطرتها، من الحكومة الملتزمة بالحفاظ على حرية المجتمع، وتجنب أي سياسة فيها إكراه على أي سلوك مجتمعي؛
 
 لكن مكمن ضعف الحكومة الشرعية، ليس في أنها مكبلة بنهج مدني، والتزام قيمي تجاه المجتمع، فلا أحد يطالبها باختراقات قيمية، أو سلوك تقلد فيه مليشيا الحوثي؛ بل ما كان يجب عليها هو التحرك في مساحة الحرية ذاتها، وتعزيز تواصلها مع جماهيرها، واستثمار قابليتهم الذاتية لاسناد الحكومة والجيش في معركة الخلاص من مليشيا أنهكتهم كثيرا، وخلفت جراحات كبيرة فيهم، فيما لم يجدوا حكومتهم متحفزة لاحتواء حماستهم هذه، كما هو حال المليشيا التي ما تركت جرحا إلا واستثمرته، ولا موقفًا يصلح للتعبئة إلا وتغنت به حتى النهاية.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر