يحاول الإنتقالي الجنوبي أن يستنسخ تجربة السلطة والمعارضة في نفس الوقت! هذه اللعبة ليست ابتكارًا جديدًا للإنتقالي، هي تكتيك سياسي تقليدي، تلجأ إليه الجماعات الإنتهازية؛ لكنه سلوك لا ينجح دوما، إلا بتوافر شروط معينة، من الواضح أن الإنتقالي لم يتقنها بعد، وبالأصح لا يسعفه واقعه وحالته على إجادتها.
 
يملك الإنتقالي قوة عسكرية في الجنوب، ويستخدمها كأداة ضغط لمعارضة الحكومة؛ هذه القوة العسكرية هي قَدَمُ الإنتقالي خارج السلطة، فيما قَدَمه الأخرى يشارك بها في الحكومة. هذه الحالة لا تُمكِّن الإنتقالي من اتقان لعبة السلطة والمعارضة في نفس الوقت!. ذلك أنه يستخدم أدوات السلطة في المعارضة، وهي "القوة الخشنة"، فيما قوته الناعمة داخل الحكومة تجعل حيلته هذه مكشوفة؛ بل ومحرجة له!..
 
إذ كيف تعارض حكومة أنت جزء منها؟! ليست المشكلة في أنه يعارض الحكومة ويحتج عليها؛ بل في أدواته في الاحتجاج؛ تلويحه بالقوة العسكرية في وجه القوة الناعمة للحكومة، وبما يفقد معارضته أي معنى للنجاح، كونها معارضة مسلحة تستخدم أدوات غير مشروعة في الاحتجاج..!
 
من الواضح أن الإنتقالي مرتبك أكثر من الحكومة نفسها. فالقوة التي يتمتع بها، تتحول لعامل خسارة في حالته، بل مصدر إدانة تجرده من مشروعيته السياسية التي حاول اكتسابها بفعل مشاركته في الحكومة. هو بسلوكه هذا، لا يحقق نصرا على خصومه، بل يُعيد الأمور إلى نصابها الأول: جماعة مليشاوية تنقلب على حكومة، معترفة- أي هذه الجماعة ذاتها- بشرعيتها.
 
دخل الإنتقالي اتفاق الرياض، وهو ليس مقتنع به تمامًا؛ لكنه أمضى عليه كنوع من المناورة السياسية؛ كان يعتقد أن موافقته على الاتفاق ربما تتيح له القدرة على ابتلاع الحكومة من داخلها، وحين شعر بصعوبة الأمر، بدأ يفكر بافتعال مشكلة، تبرر نكوصه عن الاتفاق، والعودة لوضعه السابق.
 
أراد الإنتقالي أن ينتزع اعترافًا سياسيًا به، ويكتسب غطاءً قانونيًا لتحركاته، لكنه يتعمد إغفال حقيقة محرجة، هي: أن مشاركته بالحكومة، تعني بوضوح أن الاعتراف به هو أيضًا يتحقق بالتوازي مع اعترافه هو بشرعية الحكومة. أي أننا أمام اعتراف متبادل، وأي نكوص عن التزامه هذا، لا يجعل من تمرده القادم عملا مشروعًا، بل يعمق من تعريف تحركه كانقلاب من داخل السلطة ذاتها، وهو سلوك أكثر اشكالية من انقلابه كجماعة غير معترفة بالسلطة، وتستند لدعاوى تأريخية تحت لافتة: تقرير المصير، والحق في استعادة دولة الجنوب المزعومة..!!
 
في الواقع، انقلاب الإنتقالي السابق، كان أقل إحراجًا له، وأيسر كلفة، من أي محاولة جديدة قد يُقدِم عليها الآن. في المرة السابقة، كان متخففًا من أي التزام سياسي، كما أنه لم يكن قد وقع تحت وصاية سعودية من أي نوع، لكنه اليوم مكبل بتعهدات سياسية، والتزامات عسكرية، تعجل من أي استخدام للقوة، تورطا مرتفع الكلفة.
 
يعيش الإنتقالي مأزقًا حقيقيًا، يحاول التخلص منه باللجوء إلى ورقة الشارع، بهدف ارباك الحكومة، وتوفير مخارج ترفع عنه حالة الحرج، وتبرر أي خطوة تمرد مستقبلية قد يُقدِم عليها. لكنه؛ حتى في لجوءه للشارع، يبدو متعسفًا في سلوكه!، فالحكومة لم تُثّبت قدميها بعد في عدن، ولم تتمكن من استكمال تأثيث البنية التحتية الخاصة بالإدارة. ناهيك عن أن اضطراب الوضع العسكري، شمالا، جعلها ملزمة بتوجيه أولوياتها نحو أمور تتعلق بتعزيز وضعها العسكري..، وبالضرورة ذلك يحدث على حساب جهود التنمية.
 
هذا، بالطبع، ليس تبريرا لتقصير الحكومة عن القيام بمسؤوليتها، فكل الحكومات المتتالية، طوال سنوات الحرب، لم تقدم أي نموذج يستحق الإشادة، ولم تكن عند مستوى التحديات المطلوبة؛ لكن ما نود الاشارة إليه هنا، هو ضعف الحجج التي يحول الانتقالي الاستناد إليها لتبرير انتهازيته.
 
بعبارة أخرى: يستخدم الإنتقالي ورقة المعارضة لأجل المعارضة! أي أنه يتعمد تحشيد الشارع، واستثمار حالة التململ لديه، كي يدفعه لإرباك الوضع. مع أن الوضع الآن، هو نفسه مثل الوضع السابق، لا يختلف كثيرا؛ فالبلاد معطلة بالكامل، وأداء الحكومة متواضع، وهي بحاجة لفسحة زمنية ترتب فيه وضعها، وتسيطر على مواردها، ثم بعد ذلك يمكن تقييم أداءها، بعد أن تتاح لها فرصة كافية لإثبات نجاحها أو فشلها..
 
أما أن تجردها من كل وسائل السيطرة، وتعيق عملها، وتريد أن تكون حكومة داخل الحكومة، ثم تخرج للصراخ: انظروا، إنها فاشلة، فهذا تربص أكثر من كونه معارضة سياسية مسؤولة.
 
في الحقيقة، الإنتقالي كيان سياسي حديث النشأة، وعوامل قوته ونفوذه محدودة، على المستوى السياسي والعسكري معًا. إذ لا يكفي امتلاكك لقوة عسكرية معينة، كي تكون مؤهلا للحكم!! كما لا يكفي استفرادك بالحضور في أربع مدن جنوبية، كي تكون قادرا على إدارة شؤون الجنوب بكامله..!!
 
لربما كان الإنتقالي بحاجة للإشتغال على المدى البعيد، ومراكمة أدوات القوة والنفوذ، وتعزيز تحالفاته الداخلية، كي يتمكن- بعد فترة من الزمن- أن يقدم نفسه باعتباره المظلة السياسية والعسكرية الأبرز لتمثيل الجنوب، قولا وفعلا..
 
 فوضعه الحالي، يكشف عن تناقض بين ادعاءات القوة، وبين حقيقة الواقع. فهو يبالغ في ادعاء القوة بشكل متجاوز لحقيقة وضعه! والقوة هنا، بمعناها الشامل، قوة تنظيمية وشعبية وعسكرية، وكادر إداري، ونفوذ سياسي، وموارد كافية، وكل ما يتطلبه كيان يطمح للسيطرة على السلطة والتحكم بمفاصلها، وتحمل تبعاتها.
 
الخلاصة: يجد الإنتقالي نفسه عالقًا بين وضعين، كلاهما لا يمنحانه فرصة للاستحواذ على الواقع كليًا؛ فلا هو قادر على بسط سيطرته عسكريًا، وتحمل تبعات هذه السيطرة بكل ما تقتضيه الأمور، من قدرات إدارية وإقتصادية تجعله يتمكن من تسيير حياة الناس بنسبة مرضية؛ ولا هو مستعد لمواصلة العمل من داخل الحكومة، انتظارًا لفرصة قادمة يتمكن فيها من مضاعفة مكاسبه ونفوذه، وصولا إلى تحقيق مشروعه المزعوم..!!
 
تعّجَلَ الإنتقالي كثيرا في تصدير نفسه كقوة متجاوزة للجميع في الجنوب. وتحت سيطرة وهم القوة، اعتقد أن بمقدورة السطو على اللعبة بكاملها..! لكن حقيقته الواقعية ظلت تتجلى، وتكشف عن هساشة بنيوية في مجمل الكيان المستحدث!..
 
 كما أن محدودية سيطرته على محافظات بعينها في الجنوب، حرمته من تعزيز مصادر قوته، وظل حبيس المربع المعروف: عدن، أبين، الضالع، لحج. وهو مربع يضع الإنتقالي أمام التزامات غير قادر على انجازها، استنادا لما يمكن أن يتحصل عليه من داخل مربع كثير المشاكل وقليل الموارد، ولا أمل بمصادر أخرى، يمكن التعويل عليها..!
 
ولا مخرج له، سوى الاندماج في الحكومة، ومواصلة العمل من داخلها، أو المغامرة بالإنقلاب عليها، والدخول في دوامة جديدة.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر