غُربة ملك


نور ناجي

أَقصِر إِلَيكَ مِنَ الوَعيدِ فَإِنَّني،،
مِمّا أُلاقي لا أَشُدُّ حِزامي،،
وَأَنا المُنَبَّهُ بَعدَما قَد نُوِّموا،،
وَأَنا المُعالِنُ صَفحَةَ النُوّامِ..
 
أغلب الظن أن الأبيات السابقة لم تكن لتغير من رأي "حجر ابن الحارث الكندي"، أو تخفف من وطأة غضبه على ابنه. فما زال الفتى في نظر أبيه مدللاً مستهتراً، لا يختلف في السمعة السيئة عن رفقائه من صعاليك شبه الجزيرة العربية..
 
لم يكن قول الشعر، أو اعادة قولبته، ليمثل إنجازا مهما لملك "كِندة"، فلا يجوز لأبناء الملوك ممارسة الشعر، ولو من باب الهواية والتسلية، الأمر الذي دعاه لتأديب ابنه "جندح"، أو "أمرؤ القيس" كما اشتهر لاحقاً، وإرساله إلى موطن قبيلته الأول في "دمون" حضرموت، فقد يعيد العيش القاسي للفتى بعض من صواب يؤهله للحكم..
 
تطاول الليل علينا دَمونْ،،
دَمونُ إنا معشرٌ يمانونْ،،
وإنا لأهلنا محبّونْ،،
 
إلا أن الفتى لم يعد إلى رشده كما أريد له! على العكس من ذلك ترك الفتى نفسه لشيطان الشعر يسوقه حيثما شاء، مكونًا حوله رفقة لا تقل سوءا عن صعاليك كنده!..
 
هل كان الفتى بهذا القدر من العناد؟! أم أنه أبقى نفسه في السجن الذي صنعه له "حجر ابن الحارث" دون أن يدري؟!..
 
 
كانت لتكون معركة شديدة المراس بين امرؤ القيس ووالده، إلا أن قبيلة "بني أسد" أبت إلا أن توقف تلك المعركة، وفكت قيود سجن "امرؤ القيس" بعد أن ثارت على ملكها واردته قتيلاً، ليجد الملك الضليل نفسه فارغاً من والده وملكه، وحائراً في ما يجب عليه فعله؟!..
 
هل كان والده على حق في القسوة التي عامله فيها؟! أم أن "طغيان حجر ابن الحارث" صنع حاجزا صلبا هو ما جعل ابنه يضل طريقه للمُلك؟! تجد ذلك واضحاً في رد الإبن الذي رفض البكاء على خبر مقتل والده: "رحم الله والدي، ضيّعني صغيراً، وحمّلني ثأره كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر"..
 
يحدث أن يخشى المرء فقدان السجن الذي اُجبر على العيش فيه، فليس من السهل اعتياد سواه.. !!
 
لم يكن أمرؤ القيس الشاعر الوحيد الذي حمل السلاح، فقد حمله ايضا عنترة العبسي، إلا أن المقارنة بين الفارسين مجحفة في حق امرؤ القيس، فشتان بين فارس مثقل بميراث قسوة والده ومحاصرة المجتمع له بواجب الثأر وعار فقدان العرش، وبين فارس متخفف إلا من قائمة طموح لا خسائر محتملة فيها..
 
بدأ امرؤ القيس رحلة الثار دون أن يخلع الشاعر فيه، أو رداء المُلك، حتى فاجأته سلاسل من الخذلان والخيبات المتتالية!..
 
ما الذي منع العرب عن نصرة امرؤ القيس؟! ألم يكن لها أن تثق في فتى لم ينل ثقة والده، أم أن لباس الشاعر شككتهم في قدرته على صناعة النصر؟! كل ذلك لم يمنع امرؤ القيس من الاستمرار في طريقه مهما كانت التضحيات، كما قال لصاحبه:
 
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَهُ،،
وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيصَرا..
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما،،
نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتَ فَنُعذَرا..
 
لم يفقد إمرؤ القيس إحساسه بذاته وتقديره لها طيلة الرحلة.. ترى ذلك في ابيات الشعر التي مدح بها نفسه، حتى أنك تتسائل إن كان ذلك ما يشعر به حقاً، أم أن مبالغته كانت موجهة لروح والده، لعلها تخفف من حدة تهكم قديم لم تفارقه؟!.. 
 
عَلَيها فَتىً لَم تَحمِلِ الأَرضُ مِثلَهُ،،
أَبَرَّ بِميثاقٍ وَأَوفى وَأَصبَرا..
هُوَ المُنزِلُ الآلافَ مِن جَوِّ ناعِطٍ،،
بَني أَسَدٍ حَزناً مِنَ الأَرضِ أَوعَرا
 
غالباً ما أخفى امرؤ القيس أدوات قصائده، وجعلها غير واضحة المعالم؛ تجده مشتاق في بيت شعري، وحزين في آخر، مفاخرٌ في موضع، وبالغ الحكمة في موضع غيره.. ، مبقياً وحدة بناء قصيدته خفياً إلا من خيط شفاف رفيع، لن تتمكن من التقاطه حتى تعيش قصة حياة الرجل، والأجواء التي نظم بها قصائده!..
 
لم تغادر "الغُربة" شاعرنا، منذ غادر كِندة صبياً حتى لحظات سريان السمّ في جسده. غربة صنعها والده "حجر ابن الحارث" بقسوته وعناده، ليجابهها امرؤ القيس بعناد واستهتار أكثر قسوة! بكى امرؤ القيس تلك الغربة على أطلاله، وهو شاهر سيفه، أو بينما كان يتسكع من خدر لخدر، دون أن تفارقه مشاعر الاغتراب ليلا أو نهارا:
 
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه،،
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي..
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه،،
وأردف أعجازًا وناء بكلكل..
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي،،
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ..
 
ربما لم يبكِ امرؤ القيس والده لحظة سماعه خبر مقتله، إلا أنه الوحيد من بين ابنائه الكثر الذي أخذ على عاتقه الأخذ بثأره. فقد كان الملك الأجدر بمملكة كِندة، لولا أن الملك وابنه لم يدركا مطلقاً مدى التشابه الذي جمع بينهما!..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر