أصيب العالم بنوبة"جنون"، لم يسبق له أن أصيب بمثلها على هذا النحو المتسارع والمخيف. بينما نحن هنا نبدو وكأننا غير مكترثين لكل هذه المخاوف الناجمة عن اجتياح كائنات مجهرية دقيقة، غير مرئية، ولم يعرف كنهها بعد، لكوكب الأرض، الذي بدى من أدناه إلى أقصاه، مشوشا وعاجزا ومشلوشا عن فعل شي..!!  بكل ما يمتلكه من أسلحة فتاكة، ونهضة علمية وتكنولوجية وطبية، لطالما ظل يتفاخر بها، ويتلاعب بتفاصيلها أولئك "الحُواَت" الملهمون حضاريا، على مدى العقدين الأخيرين..!!
 
ما القصة؟
فيروس صغير جدا، أطلق عليه أسم "كورونا"، ظهر في الشهر الأخير من العام الماضي (2019)، في مدينة "ووهان" الصينية، وفيها/ ومنها، أنتشر بسرعة فائقة، لم يستوعبها بعد علماء وجهابذة وعباقرة عالمنا الأرضي..!!
 
من شيء ما، غير معروف، تخّلق هذا المدعو "كورونا"، وفي ظرف أيام قليلات أحتل أجساد الملايين من البشر، ليذيقهم ويلاته، ويصادر أنفاس أولئك الذين عاشوا طويلا، من كبار السن، مستغلا ضعف وتهالك جهازهم المناعي العاجز عن مقاومته. وفي ظرف أسابيع قليلة فقط، أصبح العدو العالمي(المشترك) يمتلك جيشا جرارا، لا يحصى ولا يعد، من بني جلدته!!. بل كلما مر الوقت، كلما تضاعفت أعداده، في متوالية هندسية لم يدرك كنهها- بشكل نهائي متفق عليه- حتى اليوم..!!

 حسنا، حين كان هذا المجرم المستجد، يلعب في الصين، فيما يجاريه الصينيون بتكنلوجيتهم المتطورة- التي قل نظيرها على مستوى العالم حسب وصف أحد كبار موظفي منظمة الصحة العالمية للإجراءات الصينية في مواجهة الفيروس- كان الأمر ما يزال غير مقلق، عالميا، حينها. وكنا- معظم العالم تقريبا- ننظر إلى الفيروس كخطر بعيد جدا، وربما أنه لن يبارح بكين، منتظرين فقط: من سينتصر على الأخر؟!
 
ما حدث هو أن "كورونا" لم يكن يلعب في الصين، بل كان يقوي عضلاته ويطور قدراته الذاتية، ويخلق جيشا متمرسا، ليحلق بعدها من هناك ويطير بسرعة كبيرة جدا لبسط سطوته ورعبه على بقية أرجاء المعمورة، متخفيا في حلوق كل من صادفهم في طريقه، متجاوزا بسلاسة أجهزة الرصد الحديثة في المطارات الدولية الأكثر تقدما وتقنية..!!
 
وشيئا فشيئا، بدأ الخوف يدب في العالم، والجنون يتصاعد تدريجيا لدى أباطرته الكبار. ففي غضون ثلاثة أشهر ونصف فقط، تمكن هذا المتنمر الفاشي، من إصابة أكثر من نصف مليون بشري، وإعطاب حياة ما لا يقل عن 10 آلاف من ضحاياه. وهناك سيناريوهات تتحدث عن أرقام خيالية سيصلها الفيروس- أو سيحصدها- على مستوى العالم، خلال أسابيع قادمة. في حين ما زالت كل علوم هذا العالم النانو تكنولوجي والشبكي والخوارزمي، عاجزة عن تخليق سلاحا لردعه، حتى الآن..!!
 
عجز شامل، ولا شيء سوى البيانات الصحفية الرئاسية التي تزيد من المخاوف، بغية ردع تساهل المواطنيين إزاء الأجراء الوحيد المتاح حاليا للتخفيف من تسارع إنتشاره الجنوني، والمتمثل بـ"الحجر" الصحي، أو ما يعرف بالعزل الطبي.
 
فمعظم الدول، التي بدأ الفيروس يزحف إليها، طالبت مواطنيها البقاء في منازلهم بإرادة ذاتية، كإجراء إحترازي. بينما تلك التي أخذ الفيروس موقعه فيها بشراسة، فرضت قيودا صارمة كالعزل الإجباري في المنازل، ومنع كافة الأنشطة الجماعية، والاحتفالات واللقاءات ومختلف الفعاليات الحياتية، بما في ذلك الدوام الوظيفي.. ووصلت بعضها إلى فرض منع التجوال في الشوارع وفرض غرامات مالية وقانونية على المخالفين..
 
العالم بدأ بالقلق، وأتخاذ إجراءات وقائية. كل العالم تقريبا، ما عدى اليمن منحتها منظمة الصحة العالمية صكا بخلوها- حتى الأن- من أي إصابة بمرض (COVID-19) الذي يسببه فيروس "كورونا"..!!
 
يتسائل اليمني: ما الذي يمكن أن يضيفه هذا الفيروس إلى حياتنا المضروبة أصلا بالحرب المستمرة منذ خمس سنوات؟! فيما يعتقد البعض أن هذا "عقاب إلهي" للمتجبرين عالميا، واليمن ليست منهم..!!
 
غير أن تسارع الأخبار، وتضارب المعلومات بين الدول بشأن طبيعة عمل الفيروس، وآلية عمله، وشكل مواجهته- أو بالأصح محاولات التخفيف من حدة إنتشاره- وصعوبة الوضع حتى على كبريات الدول العظمى، جعلنا- أو جعل البعض هنا- يستحثون جهازهم العصبي لإستشعار خطورة الموقف، على وقع سؤال: ماذا لو أجتاح هذا الـ"كورونا" اليمن الضعيف والأفقر على مستوى الشرق الأوسط؟!
 
سنعود إلى هذا السؤال، لكن دعونا الأن نستعرض خطورة الجائحة أكثر..
 
في الأسبوعين الأخيرين تحول العالم إلى خرابة فارغة، وخلت أكثر المدن ازدحاما، عالميا، من الحياة.. ومع ذلك ما زالت الأرقام تتضاعف، كون هذا النوع من الفيروسات يمتلك ميزة التخفي في الأجساد البشرية خلال فترة حضانة تصل إلى أسبوعين. بل الأخطر هنا هو أنه ينتقل بسهولة أكبر من حامل المرض الذي لا تظهر عليه أعراض إلى شخص آخر..!!
 
ما يرجح أن جزءا كبيرا من أولئك المعزولون في منازلهم، ربما يحملون الفيروس ولا يعلمون، ومن يوم إلى آخر تنتهي حضانة البعض ويكتشفون إصابتهم ويعلنون، وهؤلاء ربما أصابوا على الأرجح كل من التقوا بهم خلال الفترة السابقة من الحضانة، لتبدأ متوالية جديدة أخرى.. وهكذا..
  
كما أن الأكتشافات، لخصائص وأساليب عمل هذا الفيروس، ما زالت تتكشف تباعا. وقبل أيام- مثلا- كشفت دراسة أمريكية أن هذا الفيروس يمكنه الطيران والتحليق في الهواء عبر الرذاذ لمدة ثلاث ساعات. وشُبه عمل الرذاذ المفيرس كـ"قنبلة مجنحة"، يقذفها الرذاذ لتحلق في الهواء بحثا عن ضحية لتدميره.
 
وتضاف هذه الميزة الأكثر خطورة، إلى ميزات سابقة أخرى كثيرة، منها أن الفيروس يمتلك القدرة على البقاء حيا على الأسطح المعدنية لعدة أيام، بخلاف ما هو معروف سابقا عن الفيروسات: موتها خلال ساعات.
 
ثمة تفاصيل كثيرة تجعل اليمني، المتابع على الأقل، يتحفز ويتسائل: حسنا، ماذا لو أجتاح الفيروس بلادنا، التي أنهارت منظومتها الصحية في السنة الأولى من الحرب، والتي عادت إليها أمراض قديمة لم تعد تظهر في العالم، كالكوليرا وحمى الضنك والتيفوئيد..، وغيرها من الحميات والإسهالات الحادة، التي ما زالت حتى اليوم تصيب وتقتل الكثير من اليمنيين؟!
 
لنضع هذا السؤال، أمام حقيقة أن معظم مخاوف دول العالم المتقدم، كأمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها الكثير، تنصب حول عدم كفاءة منظوماتها الصحية في مواجهة انتشار فيروس كورونا..!!
 
فبرغم تقدمها صحيا، إلا أنها تخشى من أن سرعة انتشار الفيروس سيجعلها عاجزة عن استيعاب الكثافة اليومية لـ20% من المصابين، الذين سيكونون بحاجة إلى عناية خاصة في المستشفيات..!!
 
بحسب الدراسات، تقاس سعة المنظومة الصحية لعدد الأسرة المتوفرة في المستشفيات لكل ألف شخص. فمثلا، ألمانيا يمتلك نظامها الصحي- حاليا- ثمانية أسرة لكل ألف شخص.

المعيار القياسي الآخر، هو عدد أسّرة "العناية الحثيثة" لكل مئة ألف من السكان (أي الأسّرة المجهزة بأدوات خاصة للحالات الحرجة كأجهزة التنفس الاصطناعي). خصوصا وأن نسبة 5% من نسبة الـ20% من الحالات الخطرة لمرضى كورونا (كوفيد-19)، بحاجة إلى أجهزة تنفس أصطناعي. وبحسب الدراسات المنشورة، يوجد في ألمانيا 29 سرير عناية حثيثة لكل مئة ألف من السكان.
 
ذلك ما يدعو إلى قلق تلك الدولى العظمى المتقدمة صحيا. التي أثارت موجة من الهلع والخوف العالمي بمجرد وصوله إليها، وأعترافها بالعجز عن قلة حيلتها في مواجهة هذا الهجوم الفيروسي الكاسح، سريع الإنتشار..!!
 
أما في اليمن فالأمر مختلف. فليس ثمة ما يدعو إلى القلق من عدم كفاءة المنظومة الصحية، التي تسببت الحرب في أنهيارها بشكل شبه كامل! كما أنه لا قلق بخصوص الأسِّرة، فماهو موجود منها في المستشفيات (الحكومية والخاصة)- على ندرتها- يشغلها آلاف الجرحى والمعاقيين بسبب الحرب. فعلامَ القلق إذن؟!
 
أما أجهزة التنفس الإصطناعي، فهي أكثر ندرة، بل تكاد تنعدم، وفق معيار القياس على عدد السكان. ومن باب الإستشهاد على حجم الكارثة في هذا الجانب، فقد مات أبي- رحمه الله- قبل عامين في غرفة طوارئ أحد أفضل المستشفيات الأهلية بمدينة تعز، بسبب عدم إمتلاك المستشفى سوى عشر أنابيب إنعاش اصطناعي فقط، كانت جميعها مشغولة، وكان أبي بحاجة إلى إحداها فلم يجد..!!   
 
الأن، مجددا: بالنظر إلى كل تلك المخاوف والأهوال الصحية التي يتسبب بها عالميا، ماذا لو أجتاح فيروس "كورونا" اليمن؟
 
سؤال يدق ناقوس الخطر، لما لا يمكن التنبؤ حتى بحجم كارثية ما سينجم عن حدوثه.
 
لننظر إلى ما صنعته- وما زالت- حمى الضنك في اليمن: تقول تقارير الأمم المتحدة إنها رصدت 37,480 حالة اشتباه بحمى الضنك خلال العام الماضي (2019)- حتى شهر نوفمبر فقط- توفت منها 150 حالة.
 
هذا مع مرض فيروسي ينتقل عبر البعوض، فكيف سيكون الحال مع فيروس ينتقل عبر البشر: باللمس، بالسعال، بالرذاذ، بالإحتكاك، بلمس الأسطح المعدنية، وحتى بالمرور بالقرب من هواء ملوث بالفيروس قبل ثلاث ساعات؟!!
 
هناك دراسة رقمية، مستوحاة من معدلات العدوى والوفيات من الصين، وكوريا، وإيطاليا (وهي أكثر ثلاث دول تضررا من الفيروس حتى الأن)، تتوقع أن الفيروس قد يحصد أرواح 90 مليون حالة على مستوى العالم خلال فترة ما بين 3-6 أشهر، في حالة عدم اتخاذ أية أجراءات للعزل الصحي، التي ستعمل على تقليل العدد كثيرا.
 
يبلغ عدد سكان اليمن قرابة 30 مليون نسمة، وفيه تجمعات سكانية عديدة، متقاربة ومتداخلة، وتشكل جزءا مهما من حياة اليمني، اقتصاديا وإجتماعيا. وتعاني البلاد من شحة كبيرة في مياه الشرب، وندرة في الغذاء، ويعتمد فيه السكان على 80 % من الواردات في ظل وضع اقتصادي مزري، في حين تتكدس البلاد بالنفايات وتنعدم البيئة المناسبة للحصول على حياة آمنة..
 
وثمة عوامل كثيرة، إقتصادية، وإجتماعية، وسياسية- لا يسع المجال لذكرها، لكنها معلومة للكثيريين- تجعل من الصعوبة على اليمنيين التزام أي إجراء من هذا القبيل: العزل الطبي (منزليا).
 
تقول إحدى الدراسات إن تخليق مصل (لقاح) فعال وآمن لفيروس كورونا بكميات تغطي العالم، سيحتاج إلى ما لا يقل عن 18 شهرا. لذلك لا حل حاليا أكثر كفاءة من الإلتزام بالعزل الصحي، ولو بـ"القمع"، إلى أن يتم خلق ذلك اللقاح المنقذ..
 
وحتى إذا أقتنعنا أن "كورونا" لم يصل اليمن بعد (لأن جو هذه البلاد غير مناسب له- مثلا)، فإن هذه المدة لن تكون فقط كافية لتغيير نظرة الفيروس إزاء اليمن وأجتياحه، بل لتدمير وإهلاك نسبة كبيرة جدا من السكان، في ظرف أشهر قليلة، بأكثر مما دمرته الحرب خلال الخمس السنوات الماضية..!!
 
هل يمكنكم تخيل حجم الكارثة المنتظرة، فيما الناس هنا يعيشون حياتهم الطبيعية دون أي إحترازات وقائية؟!

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر