للحروب نتائج كارثية، "جانبية"، كثيرة.. منها تلك التي تخترق عمق المجتمعات، أفقيا، حيث تتعرض أكثر فئاته ضعفا للدمار، أو للإنهيار، في مختلف جوانب الحياة المادية والإنسانية..
 
غير أن أخطرها، وأكثرها تأثيرا- على المديين القريب والبعيد- هي تلك التي تخترق رأس المجتمع، عموديا، وتعرض منظومته الأخلاقية ومبادئه العامة للخطر..
 
حيث يتحول المثقف النخبوي، من حارس وحامي للقيم والمبادئ الوطنية الجمعية، إلى جزء من آلة دمار شامل لها، يتم التحكم بها وتحريكها؛ إما عبر الأيديولوجيات الحزبية، وهي الأقل خطورة؛ أو عبر المال السياسي الخارجي القذر، وهو الأكثر تدميرا وفتكا على المجتمعات، خصوصا التي تمر بحروب داخلية، ينتهي في خضمها العمل بالقوانيين الناظمة، وتصبح منظومة القيم والمبادئ الأخلاقية عرضة للخيارات الفردية..!!
 
وأسوأ ما تجسده هذه الحالة المشوهة، ما تشهده بلادنا (اليمن)، اليوم، من أنهيار فاضح لمبادئ العمل السياسي، أولا؛ وما استتبعه ذلك- تاليا- من انحرافات في قيم وأخلاقيات العمل الصحفي..
 
تلك المبادئ والقيم، التي على الرغم من ندرتها في المجتمعات الناشئة ديمقراطيا، إلا أنها في بلادنا كانت تحمل قيمة سياسية وإجتماعية عالية في طور المشاركة الفاعلة في عملية التخليق والتنشئة الديمقراطية، على مدى العقدين الأخيرين قبل الحرب..
 
ومبلغ الأمر، هنا، أن بيئة العمل الصحفي، آنذاك، ظلت تعكس- على نحو غالب- رغبة جماعية حقيقية بين النخب، لمحاولات إلتزام أدنى معايير المهنية المتجردة من المصالحية القاتلة، نأياُ بالصحافة من الإستقطاب المهين لقيمتها الوطنية.  
 
 واليوم، تكمن خطورة هذا الإنهيار العلني السهل، بعد خمس سنوات من الحرب، ليس فقط من جهة ما يعكسه الوضع القائم من حالة إرتهان معيب، كجزء من حجم الدمار الذي أصاب رأس المجتمع؛ بل لكونه، في الوقت ذاته، يعمل على هزّ ثقة العامة بنخبهم، لا سيما أولئك القيَميّون البسطاء الذين ظلوا يعظون على مبادئهم الوطنية وقيمهم الأخلاقية بالنواجذ في أحلك ظروفهم المعيشية.
 
قد لا تعير صحافتنا المستلبة اليوم أدنى أعتبار لتطلعات المجتمع المحلي المنشودة منها، بما كان يستوجب عليها ذلك من ثبات في الموقف تدعيما وترسيخا للقيَّم الوطنية. ذلك أن الظرف بالنسبة لها، هنا، أصبح خارج سياق تجسيد المُثل العليا، وأكثر قربا من أمتثال "الذكاء الإنتهازي"، حين يتطلب الأمر فقط: التحول إلى لسان مسلطة، ويد ضاربة إضافية على كتف "روبوت" التدمير المصنوع من الذهب..!! 
 
الأمر الذي استوجب عليها، بدلا من ذلك، سرعة الاستجابة لهذه اللحظة، وأنتهاز الفرصة لتحقيق أكبر قدر من المصالح الخاصة، الآنية، لا سيما في خضم تسارع هذا الموات القيمي العام، لمصلحة ترسيخ التصارع المصالحي الحميم ما بين النخب المفككة، من جهة، وبينها ومجتمعاتها المسحوقة، من جهة أخرى..!!
 
وهي، إذ تقوم بذلك على هذا النحو الكارثي، قد لا تدرك- في الوقت الراهن على الأقل- أنها إنما تعمل على تدمير بيئتها القيمية الحية، تلك التي لا يمكنها الإستمرار بدونها مستقبلا، حين تخرس المدافع، ويعود الناس للبحث عن قيمهم الوطنية ومبادئهم الأخلاقية التي أفتقدوها في عتمة الحرب..
 
فحين تخمد الحرب، وينقشع غبارها كليا، سيكون من السهل جدا إعادة بناء ما دمرته من بنى تحتية واقتصادية..، لكنه لن يكون كذلك بالنسبة للشق الثاني: إعادة ترميم الدمار الذي طال عمق المجتمع، في مبادئه الوطنية وقيمه الأخلاقية.. فذلك دائما هو الجزء الأكثر صعوبة، والأشد بطئا في بناء/ وإعادة بناء الأمم.
 
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر