"علي بن الفضل" البراجماتي الزاهد..


نور ناجي

اخرج الطبيب المبضع من فمه قبل أن ينحني ويبدأ باستخدامه. راقب تدفق الدماء بإهتمام حتى انتهى من عمله وغادر الحصن. لم يمض بعض الوقت حتى شعر "الامير" بالسم يجري في عروقه، "لابد وأنه كان مغمسا في شعره!"، حدث نفسه وهو يتذكر. حرص الطبيب- ولعدة مرات- على مسح المبضع بشعر رأسه قبل أن يقوم بحجامته، "لقد فعلها إذن!"، هتف بحنق على الموت الذي بدأ ينشب به وصاح بجنوده: "اقتلوه حيث تجدوه!"، وبالفعل لوحق الطبيب وتم قتله في مدينة "يريم" القريبة من مذيخرة، عاصمة دولة "علي إبن الفضل"، الشخصية الأكثر جدلا في التاريخ اليمني!..
 
 
من هو علي بن الفضل، ولماذا امتلئ تاريخه بالكثير من المتناقضات؟! ..
 
 
ولد علي بن الفضل في جيشان/ العود، قبل أن ينتقل الى "عدن" أحد المنافذ التي عبر خلالها المذهب الشيعي لليمن، والميناء الأقرب لارض "فارس" كما كان يطلق عليها..
 
 
في حقيقة الأمر، لقد تشيع اليمني مبكرا، سواء في المناطق الساحلية أو المرتفعات، ولأسباب عدة، قد يكون الاقتناع بالمذهب أبعدها، فقد كان موقع اليمن البعيد والصعب التضاريس على سيطرة عاصمة الخلافة، سبب مناسب للتمرد، خاصة أن عزز ذلك بكراهية توفرت ضد الدولة العباسية وخطاياها..
 
 
اتجه إبن الفضل نحو الكوفة تلبية لنداء مذهبه الجديد ليقابل هناك من يرى فيه المؤمن المصدق لنداء القرامطة الذين بدأوا بالفعل بالانسلاخ عن الخلافة الضعيفة وبدأوا بتكوين دولتهم ..
 
 
هل كان أبن الفضل في تلك اللحظة متشيع وقرمطي حقيقي، أم ادعى ذلك؟!..
 
 
تناقضت المراجع التاريخية في توصيف الرجل، فبعضها بالغت في شيطنته، لتضيف لشخصيته الكثير من الأفعال والصفات التي لا يمكن لأي محايد أن يستوعب حدوثها أو يتوقع قبول اليمني بها، حتى تحت حد السيف. وفي المقابل مجدته بعض أقلام ذلك العصر وقامت بتصنيفه بالثائر والقومي الأول الذي كاد يعيد مجد حمير مجدداً، فأيهما كان الرجل؟!..
 
 
بعيداً عن الأهواء الخاصة وما تميل إليه النفس، علينا الاعتراف بأن الرجل كان مؤمن بمذهبه الشيعي "الاثنى عشري"، نادى به وتلقى الدعم لأجله سنين طوال، ابتدأها في يافع التي استقر بها حال عودته من الكوفة، واتخذها مركزا لدعوته. لكن لماذا "يافع"، البلدة الأبعد نسبيا عن مركز القرار السياسي في اليمن؟! قد تجدون في ذات السؤال الإجابة المطلوبة!!..
 
 
لم يكن الرجل، منفرداً، قادرا على مواجهة أي قوة قبلية أو دينية سواء في وسط اليمن أو شماله، كما أن قلة موارد المنطقة أغلقت باب مطامع قد يتهم بها، وكان الرجل زاهدا بالفعل وعزف أن تكون وجبة دافئة أو ثوب زاهي أقصى امنياته. تقشف الرجل عشر سنوات قضاها متعبدا في منطقة عرف عن اهلها البساطة والعزوف عن الجدال، إلا أنها كانت تربة خصبة لتكوين جيش خاص بولاء مطلق، الخطوة الأولى لطموحات الرجل الحقيقية..
 
 
تعامل الرجل مع المتاح، وكيّف عمله ورؤيته وفق إمكانياته، ليبقى ساكنا إلا من أمر دعوته، حتى أطل العدو الأول لليمني، "الجوع" الذي يجعل من الإنسان شخصية غير متزنه باحثة دوماً عن الأمان..
 
 
اجتاحت المجاعات كافة مناطق اليمن، لتكون الوقود الحقيقي لثورة إبن الفضل، الفرصة التي انتظرها واحسن استغلالها بشعارات على شاكلة: "تقسيم مال الله على عباد الله!"..
 
 
لم يقصد ابن الفضل تدليل البطون الخاوية وحسب، بل منح عبر شعاراته عذر مرن وفتوى مناسبة لرفع السلاح والانضمام لجيشه الطموح، وأقام دولته فعليا، إلا أن مساحتها الضيقة لم تكن لتقنعه، خاصة وقد تزامن اختياره مذيخرة عاصمة له مع أخبار توسع دعوة رفيقه ابن حوشب في حجة..
 
 
أدرك ابن الفضل بكل فطنة أن ذلك لم يكن التحدي الوحيد الذي قد يواجهه. فعلى الرغم من الضيق الذي كانت تشعر به القبائل المحيطة بصنعاء تجاه اليعفريين نتيجة التزامهم بالخلافة العباسية، مازالوا المنافس الأقوى بامرائها ذو الشعبية الواسعة..
 
 
وفي خضم معارك ابن الفضل وصلت انباء استقرار يحيى بن الرسي في صعدة، ربما لم تمثل له تلك الأنباء خطر محدقا كما كان يمثل له أمراء بني زياد، غير أن دعوة جديدة لم تكن لتسهل عليه مهمته!..
 
 
كان لزاما- على الرجل البراجماتي بامتياز- ان يتعامل بكل حذر مع كافة التحديات، وقد يكون ذلك هو ما دعاه لاستبدل شعاراته "الدينية" بأخرى"قومية" مناسبة لمتغيرات الواقع..
 
 
من السهل تغيير الاستراتيجية عن التشبث بالمبادىء الضيقة، كما أن الإيمان بمذهب لا يدعوك بالضرورة للانتحار في سبيله. ربما قال الرجل ذلك لنفسه قبل أن يغير رداءه وينضم إليه الكثير، وقد أصبح الزعامة اليمنية الأولى بلا منازع. ابتلع ابن الفضل الدويلات المنافسة له خلال بضعة سنين واجبرها بعد فشل تحالفهم ضده على إعلان الولاء له..
 
 
كلما زادت قدرة المرء على التكيف والتعامل مع الحد الأدنى من متطلبات الحياة ازدادت خطورته على منافسيه، وهذا ما دعى"أسعد ابن يعفر الحوالي" الأمير اليعفري الى وجوب التخلص من جموح ابن الفضل، حتى أن كان ذلك عبر وصمة اغتيال جبان، ولم يكتفي بذلك بل قرر  دك "مذيخرة" وتحطيم جيشها المرابط خشية انبعاث علي إبن الفضل واسطورته مجدداً..
 
 
غالبا ما تتخذ الزعامات التي تعتمد على ذاتها  مسارا واحدا، جموح ساطع يظن صاحبه أنه لن يتوقف به حتى ينطفىء ويسقط بدرامية لا تبقى منه على الارجح سوى بضع سطور، من الصعب بمكان تحري الصدق فيها!!.
 
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر