سقطرى ترفض الوصاية


محمد علي محروس

   على غير المتوقع، عادت سقطرى للواجهة من جديد، في مخاض الخروج من عباءة الاحتلال القسري الملفوف بتسميات الإنقاذ، وشاحنات الإغاثة، وأشكال أخرى من المراوغة، أدركها السقطريون ولم يعودوا بحاجة لها، إذ بإمكانهم أن يشربوا الماء المالح، ويستضيئون بالشمع، ويأكلون كسرة الخبز اليابس، على ألا تكون جزيرتهم الجوهرة بيد فحّام يدّعي الخير لها، فيما ممارساته تؤكد تبيانًا كارثيًا بين ما يدّعيه ويفعله؛ وهذا ما لا تريده سقطرى، فهي يمنية الانتماء، وطنية النزعة، مآلها الدولة اليمنية الجامعة، لا تقبل أدعياء ولا أوصياء.

ظلّت الجزيرة الوديعة بعيدًا عن كل المهاترات التي مرت بها البلاد طيلة السنوات الماضية، تعانق أشجارها الجبال، وتزف أمواجها بشائر الخير الآتي لشواطئها الساحرة، أما عصافيرها فتتفنن في عزف ألحان الصباح كل يوم، باللغتين، السقطرية، والعربية، وهكذا ينعم المحيط الهندي بحيوية جزيرته المفضلة، دون تنغيص يُذكر، حتى اختارت الإمارات فجأة أن تشملها بعين الرعاية والاهتمام، كبقية المناطق والمحافظات التي أوهمتها بذلك، ثم حين كُشف القناع، تحوّل الخير إلى شر، وبات الاهتمام احتلال، والدعم شيء من لوازم ذلك الاحتلال، وهو ما لم تقبله سقطرى برمالها وجبالها وشواطئها وأشجارها وطيورها، رغم تحملها كل ممارسات الاستعمار، الذي هدد تنوّعها البيئي، وبدأ دون سابق إنذار بضمها إلى بلاده التي تبعد عنها مئات آلاف الكيلو مترات، كل ذلك جرى وعناوين الرعاية والدعم والإسناد والإغاثة تتصدر المشهد!

تخيّلوا جزيرة في وسط المحيط، تشكل جزأنا الأخير من هذه البقعة، ولم تصلها الدولة بمشاريعها الفعلية ذات يوم، هي من تقف صامدة في وجه المحتلين الجدد، تلقنهم الدروس واحدًا تلو الآخر، ويتفنن أبناؤها في تمثيلها بهواهم الوطني ذي النزعة اليمنية التي لا يغلبها مستعمر أو محتل، ويقودها محافظ شامخ أبي، لم يرتهن كما فعل بعض قادة المحليات في محافظات قريبة منه، بل آوى إلى ركن الدولة؛ آملًا في صلابته وشدته مهما عصفت به العواصف، ومشددًا في كل خطوة يخطوها على واحدية الشعور والانتماء لليمن بثقافتها وعرفها وتقاليدها، وهذا ما يقف وراء صمود سقطرى، محافظ قوي، تسانده سلطة محلية مستوعبة لما يدور حولها، ومن خلفهم جماهير واعية، لا ترتضي غير اليمن.

وحدها سقطرى تبدو كبقعة مضيئة في خارطة بلد طغى عليها اللون الأسود، وأحال سنواتها الخمس الماضية إلى ليل حالك، ولكنها تظل على عهدها مع الأجداد الذين شربوا الماء المالح وسقوا أشجارها الماء العذب، وأبوا أن تكون جزيرتهم مربضًا لبريطانيا العظمى، ولا مآلًا للقوى الاستعمارية المتعاقبة، كانت متوثبة على الدوام، وكذلك هي اليوم كالعواصف المحيطة بها تتقمص الدور في وجه المحتلين الجدد، لا مكان لكم هنا، فالأرض أرضنا، والحق حقنا.
كم أتمنى أن تأخذ الحكومة الشرعية درس سقطرى على محمل الجد، وتنتهز الفرصة لمقارعة التهديدات المحيطة بها دوليًا وفي المحافل الحقوقية والدبلوماسية، فالجزيرة دفعت عنها كل المحاولات، ولعل وقوفها إلى جانب رئيس الوزراء السابق أحمد بن دغر دليل قطعي على عطشها للدولة، وبذلك الموقف المتين تعرّى الوجه الحقيقي لدعاة الإنقاذ، ولكن الحكومة لم تعِ الدرس، وتحاول مرارًا أن تكون مرنةً أكثر من مرة؛ فقط لإرضاء السعودية، التي تحاول تصوير ما يجري كنوع من التهور الإماراتي الذي يمكن احتوائه، ولكن الحقيقة غير ذلك، فمحاولات النيل من سقطرى وقيادتها الشرعية استمرت من خلال نشر الفوضى ومحاولة الانقلاب على السلطات هناك بتحشيد ودعم غير مسبوق للقوى الانفصالية، ولكنها تموت وتنتهي عند صمود سقطرى وولاء أبنائها للدولة والجمهورية واليمن الاتحادي الكبير.

إن نموذجية سقطرى جديرة بالدراسة والخلود إلى الأبد، وليت السياسيين يستفيدون من دروس الجزيرة التي تؤكد وطنيتها بالفعل لا بالقول، كما يفعل كثير من المسؤولين المنتفعين مما يجري في البلد.

ستبقى سقطرى عصية على الانكسار، ومن خلفها اليمن هاتفة: "لن ترى الدنيا على أرضي وصيا".
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر