عطف اليمني يسع العالم


سلمان الحميدي

يملك اليمني عاطفة كبيرة تجعله مرتبطًا بتفاصيل العالم، مشكلة في أدنى الأرض كفيلة بتعكير مزاجه وإن كان واقعًا بمشكلة أكبر، تتحرك مشاعره تلقائيًا لحشد الدعم أو على الأقل لتأنيب الضمير لعجزه عن التحرك لإيقاف ظالم ما أو نصرة مظلوم، وأحيانًا يستشعر ثقل الذنب ويبتأس بدل المذنبين الآخرين.

هذا الشعور مغروس بدواخلنا فيما يبدو، ونقوم باجتراره منذ القدم، وعلينا أن نرضى به ونعيشه بشجاعة، ليس لأننا جبلنا عليه، ولكن لحاجتنا للرضا المؤقت عن أنفسنا بعد التعاطف مع الآخرين، ولأن ذلك يمنحنا شعورًا بأن هناك من يعش حياة قاسية أسوأ مما نعيش.

صديقي القروي الذي يكبرني بعشر سنوات تقريبًا، يتذكر الحرب العراقية الإيرانية، ومما روى دون أتأكد من مروياته، أن صالح أرسل للعراقيين بطائرة محملة بالدفاتر وأقلام الرصاص، حد تعبيره، وأن الطائرة عادت، ما حدا بالرئيس صالح أن يبرر أن "العراق مكتفية ذاتيًا". يتذكر ذلك ويتضرج دمه كما لو أنه محرجًا يعيش الموقف في تلك اللحظات، وأنه المسؤول عن عدم اللجوء للشعب للقيام بحملة تبرعات ترفع رأس اليمن.

نحن عاطفيون بالفطرة وقد كنا أول من ابتكر المصافحة كسلوك حركي يعبر عن المشاعر باللمس حين شعرنا بضآلة الحبوب وقلة الشعير لإعالة المحتاجين، حيث كان الأشعريون يجمعون ما يملكون في رداء واحد ويقسمونه بالسوية فيأكلون جميعًا، ليقول نبي الإسلام: أتاكم أهل اليمن.. هم أرق قلوبًا وألين أفئدة.

ما الذي فعلته بنا الحرب؟ وإلى أي هاوية قادنا الحوثيون؟
صار العالم يتاجر بنا، ويتسول لنا، وكأن عواطفنا قد نضبت وصارت أحاسيسنا قاحلة، فلم يعد اليمني يحفل بروحه اليمانية وأنفته.
اللعنة.. لقد أوصلتمونا إلى المجاعة، حيث يموت الطفل أمام والده، وهويتم بهوية اليمني اللين إلى الحضيض.
المنظمات العالمية والمحلية تلوك أوضاعنا.. العرب يتبرعون لأصلهم، وفي تركيا يضعون الصناديق أيضًا.
حتى أولئك الذين يعيشون أوضاعًا مأساوية ينظرون إلينا بشفقة..
عندما كنا صغارًا، ترعرعت معنا فلسطين، كانت الصوت واليمن الصدى..
إحداها الصيف والأخرى الشتاء، وقوافل قريش تستمتع برحلتي الموسمين قبل أن يخلف الخليج الطريق. لم نكن قد وعينا الحقيقة التاريخية التي تربط الشام باليمن والعكس، ولا الدينية التي بشر بها النبي، حيث فلسطين أمام نظره واليمن خلفه. صرنا الصوت وفلسطين الصدى..
أصدق العواطف تجاه اليمنين هي عاطفة الفلسطينيين، لأنهم يعيشون وضعًا استثنائيًا لطالما تغنى العرب بأن فلسطين على رأس أولوياتهم.
اقشعر جسدي قبل أيام، وأنا أتابع صورًا لفلسطيني رزق بطفل فلفعه بالعلم اليمني وأسماه "يمن".
ثم عجزت عن الرد، عندما كتبت الشاعرة الفلسطينية "أمل أبو عاصي" على حائطي في فيس بوك الأسبوع الفائت:
«السلام على اليمن أهلاً وبيتًا ووطنًا.
هل ما زلتم تعدون الأمسيات ببساطتكم الفخمة المعهودة؟
هل مازلتم تحضرون ضيافتكم معكم وتلبسون دون تأنق وتحيون الحياة بترفها البسيط المدهش؟
هل مازال هناك مستع للشعر ومتنفس له رغم كل الجوع والقهر؟
هل مازالت قلوبكم تنبض بالحياة وقد حاصركم الموت من كل جانب؟
هل ما زالت ألسنتكم تلهج بالدعاء وقد أكلها الصمت والوجع؟
هل مازالت أيديكم تحرك هواء القلب وقد حاولوا مرارًا بترها بالفُرقة؟
هل مازالت اليمن هي هي "اليمن السعيد"؟ أم سرق الشيطان ضحكتها وبراءتها وجمالها؟
بالله أخبروني أن اليمن مازالت هي اليمن التي كنا نعرفها.. أخبروني قبل أن يجف الدمع، فبعد اليمن لا شيء يستحق البكاء عليه؟»
كنت قد تعرفت عليها في فيس بوك، قبل أربع سنوات.. ذكرها العالم الافتراضي بحالة أشبه بأمنية كنت كتبتها في ديسمبر 2014: «أحب الشعر، ولدي أصدقاء بارعون في كتابة القصيدة. ومازلت أعتقد بأن الشعر هو أجمل ما ابتكره الإنسان "الجملة مأخوذة من رسائل يوسا إلى روائي شاب حيث أن "الأدب أجمل ما ابتكره الإنسان للوقاية من التعاسة".

في 2010، كان لدي فكرة بسيطة، أن نجتمع في مكان عام كل أسبوع، نأتي بالقهوة من المنازل لنتجنب الخسارة، وفي هذا المكان نستمع للشعراء ونشرب القهوة. سنبتعد عن الروتين الرسمي ومثالية الفعاليات في القاعات الفخمة، كما أننا سنفرش الكراتين على الأرض ونجلس عليها، سنستضيف شعراء كبار، ونوجه لهم دعوات مكتوبة على أوراق عادية وبخط يد رديء....».
كنا نحلم قبل الحرب، نخطط، نأمل ونتمنى..

وقبلها كنا نغضب لأي أذى يصيب شخصًا في فلسطين.
الآن، وقد انتزعت منا الحرب روح التعاطف، وصرنا مشردين، ثكلى، جرحى، والعالم يستعرض الأجساد الناحلة للجوعى الذين ماتوا بعد التقاط الصور، رغم ذلك كله ما زلنا نناضل للحفاظ على تلك الروح، وصاحبي مشغول بأوضاع المسلمين في الصين وزوجته حانقة..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر