عتبة الانفصال الخاسر


محمد علي محروس

لا يمكن لشعب أن يراهن على بضعة أفراد لا علاقة لهم بجغرافيتهم، وليسوا على اتصال وثيق بهمومه وتطلعاته، ولا همّ لهم سوى ابتزاز إرادته لتحقيق انتصارات سياسية وهمية تستفيد منها قوى إقليمية، تبذل كل ما بوسعها للحصول على الثروة والسيادة مهما كانت الكُلفة.

هذا ما حدث ويحدث في الجنوب منذ تلاشي فعاليات الحراك السلمي الذي طالب بحقوق الجنوبيين بوسائل حضارية منذ 2007 وحتى الحصول على تفاهمات حقيقية لحل القضية الجنوبية ضمن مخرجات الحوار الوطني التي أفردت للقضية الجنوبية مساحات شاسعة وجعلت لها أولوية قصوى ضمن الرزنامة اليومية لأحداث المؤتمر وتداولاته.

بوأد التغيير القادم من مؤتمر الحوار، وانقلاب الحوثيين على مخرجاته، وانتشار خبثهم في أرجاء صنعاء وما حولها من المحافظات، ثم هجرتهم العسكرية إلى الجنوب، تحديدًا عدن، بدا الوضع مختلفًا للغاية؛ إذ شكّل ذلك ضربةً لكل المحاولات الرامية لوضع حد للاستهتار السياسي والعسكري الحاصل لعدن والجنوب منذ عام 90.

لكن عملية تحرير عدن، أفرزت واقعًا جديدًا فيما يتعلق بالرؤية الجنوبية المستقبلية، على مستوى المطالب، والقيادات التي جاءت على إثر ذلك، محملةً بأجندة أخرى لا صلة لها بالجنوب.
في البداية، استجابت القيادة اليمنية للمطالب المؤقتة بتمكين الجنوبيين من إدارة محافظاتهم، ولكن خياراتها الوطنية قوبلت بالرفض الشديد من قبل رعاة الفوضى الإقليميين، الذين جندوا كل ما هو متاح لإحداث ردات فعل سلبية حتى وصلت حد الاغتيالات وتوقيف مصالح العامة من قبل شرذمة من الناس تدّعي جدلًا أنها تعبّر عن الجنوب ومطالبه وهمومه.

تتخذ هذه الشرذمة المناسبات الوطنية منذ تحرير عدن من المليشيا الحوثية؛ لإحداث جلبة غير عادية في مناطق الجنوب، تحت وهم الانفصال الذي لا يريده أغلب الناس هناك بالنظر إلى فوارق السياسات الاقتصادية والمعيشية بين دولتي قبل الوحدة وبعدها، ثم إنه لا يوجد مبرر حقيقي وموضوعي لانفصال نهائي ذي أسس فعلية مبنية على تراكمات تاريخية مخلة بحالة الارتباط منذ الوحدة، مع أن عموم الوضع هو المسيطر على اليمن برمتها، سواء في الجنوب أو الشمال، وهذا ما يتفق عليه غالبية اليمنيين من صعدة إلى المهرة، ومن سقطرى إلى الحديدة.

هناك سياسات إقليمية سوداء، لدول بعينها، تقتضي أن يظل الجنوب في حالة اشتعال دائم، تلهيه عن حقوقه الأصلية، المتمثلة في الاستفادة من موانئه، وثرواته النفطية والمعدنية والزراعية، فإن كانت الشرعية في حالة ضعف إداري وسياسي، فإنها لا تزال واجهة الجمهورية أمام المجتمع الدولي، رغم حالة الشتات الداخلية المفتعلة من أشقاء الخليج، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه المواطنون الجنوبيون والشماليون على حد سواء، لكن الجنوبيين يقع على عاتقهم التفكير الفعلي للخلاص من هذا الوضع الاستعماري الحديث، وإن كان بواجهة الحماية والتحرير.

جملة من المصاعب المختلقة، وجملة من الاختلالات المتباينة، وجملة من المواقف المتضادة، وحالة عامة من عدم الاستقرار، كل هذا يحدث وأصابع الاتهام توجه للشرعية، فيما من يدير عدن هم المحررون أو بالأصح المحتلون الجدد، وهم من يفتعلون جملة المصاعب والاختلالات والمواقف وحالة عدم الاستقرار؛ حتى يتمكنوا من الاستمرار في جثمهم على موارد المناطق الحيوية في المحافظات الجنوبية من موانئ ونفط وثروات أخرى بما فيها الإنسان، الذي وجد نفسه أمام خيار إما أن تكون وإما أن تموت، وما سلسلة الاغتيالات إلا في ذات السياق المعبر عن الوضع المستعصي الذي تعيش عدن ومحافظات جنوبية أخرى وقد كانت تُساق له منذ زمن، وتُهيئ له، ببوادر منظمة، من ملشنة وحالة اختلال للسلم العام هناك.

ما يُسمى بالمجلس الانتقالي تكوّن على أنقاض الحراك السلمي، لشرذمة من متطرفين على مستوى الرأي، كما أنهم متهورون، لا يملكون بصيرة مستقبلية لما يمكن فعله، نستنتج ذلك من جملة مواقفهم المعلنة، وكذلك من الجهات التي تتبنى إرادتهم، والدولة التي يحجون إليها في العام سبعين مرةً؛ للحصول على أوامر محددة، ليست لصالح الجنوب، وإن بدت في ظاهرها كذلك، وما هي إلا واجهة لمآرب أخرى، تنتفع منها هذه الدولة المثيرة للفوضى جنوبًا وشمالًا.

الحقيقة أن هناك من يقود هوس الشرذمة بالانفصال إلى المستحيل، فهم لم يصلوا بعد إلى العتبة، ولن يصلوا؛ ولهم في محاولة انفصال كردستان دروس وعبر، يجني ويلاتها الكردستانيون إلى اليوم وربما لخمسين سنة قادمة، فذات الدولة التي دعمت أكراد العراق تتبنى فكرة انفصال الجنوب، ولكنها لا ولن تستطيع في ظل التطورات الحالية، ورفض المجتمع الدولي لأي محاولة تفكيك لليمن من خلال المواقف المعلنة، وكذلك ليس في مصلحة السعودية وجيران اليمن أي انفصال؛ إذ سيهدد هذا الفعل مستقبل جيراننا، وسيجعلها عرضة لمحاولات مماثلة على المدى البعيد، بوجه أو بآخر.

راهنوا على ما يحتاجه الشعب، على همومه، طموحاته، إرادته، ساهموا لتكونوا معًا؛ من أجل يمن قوي للجميع، يرفده أبناؤه بوقود المستقبل، دون ارتباط لمصالح دول أخرى، تفتعل الفوضى من أجل نزواتها المكوكية التي تتجاوز جغرافيتها ومحيطها!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر