عزاء (صرخة)


نور ناجي

 في البدء ترددت في الذهاب..

للأسف لم تترك الحرب لإنسانيتنا الكثير من الخيارات لفرض شروطها، لكني تغلبت على الكراهية التي لُطخنا بها وأجبرت نفسي على أداء واجب العزاء، وانا ابرر لنفسي: "ما زال اليمني يملك القدرة على التخفف مما أثقل به".
 
أحذية النساء على باب المنزل تنبئ بازدحامه، اتخذت مكان قريب لباب الخروج على أمل المغادرة سريعاً..
 
طال الوقت ولم تظهر نساء العائلة، اللائي اتضح انهنّ ذهبنّ لأداء طقوس غريبة عنا "إحياء زفة الشهيد"!، واستبقين مراهقة خجلة بأجفان متورمة تلملم دموعها لاستقبال المعزيات.
 
توالت أسئلة النساء على الفتاة المرتبكة بين الصمت والحديث، وكأنها لا تعلم ما المقدار المسوح لها بالبوح به..! لم يكن القتيل في نجران، كما كان يردد أثناء زياراته المتقطعة للحارة، ولم تكن عسير على خط ناره! انتقلت الحدود المتاخمة لليمن لتتقلص حول ضواحي مدينة تعز !!
 
تفاجأت النسوة حين علمنّ أن نيران (الدواعش) بريئة من تهمة قتله، وأن سر وفاته مازال مجهولا، لم يُكتشف، رغم تشابه حالته مع حالات أخرى سبقته. بحثوا عن لدغة عقرب أو افعى في الأجساد، إلا أنها كانت سليمة. هنا أرتفع صوت إحداهن- ادعت الهمس لجارتها ليتردد مرتفعاً على جوانب المكان: "إنها الحبوب التي يشربونها..".  كان ذلك هو السبب المنطقي الذي قد يتبادر للذهن. جرعة مفرطة لـ"الشمة" لن تكون هي الفاعلة بكل تأكيد. إلا أن الاشفاق على حزن الفتاة يمنعك من الانسياق في مثل هذا الحديث !!
 
لم يطل الوقت كثيرا حتى وصلت النساء من (الزفة ). مهما ارتدت المرأة من وجوه ميتة القسمات، إلا أنها لا تستطيع خداع الفرحة واستدعائها، ولم تمض عليها سوى ساعات منذ اهالت التراب على قطعة من روحها. لن تحمل زغرودتها نشوة النصر بعد وداع ابنها أو زوجها، مهما بلغت قسوتها وقوة ايمانها بتضحيته. كنّ فقط يحبسنّ الحزن خلف قضبان صدورهن !!
 
بدأت نساء العائلة في سرد ملحمة القتال الشرس الذي قاده قتيلهم ضد (الدواعش)، قبل أن يحظى بالشهادة. الكل يستمع وهو يقلب عينيه بين القصة وبين الفتاة التي تترجى برعشة خوف: "اكتموا عني ما زلف  به لساني.." !!
 
 
انطلقت (الصرخة) البغيضة في المكان، قبل أن تتهاوى على الأرض حين لم تجد من يتلقفها من الحضور، متقلصة لكيان بشع لا ملامح له، يتلوى وهو يصارع موته وقد أدراك بأن عهده على وشك الانتهاء.
 
ترديد العدم لا يعني حصولك على شيء مقابله، خاصة حين يدرك المرء خسارته لكل شيء، نظير صرخة يدرك على الأغلب حقيقة فراغها إلا من حروفها...!
 
(الصرخة) القاتلة؛ السفاحة؛ المطلوبة الأولى على هذه الارض، بعد أن غدت عدوة الجميع، لم تكتفي بقتل المعادي لها حين رفع سلاحه عليها، بل امتدت لخنق أصحابها بسمها الزعاف..
 
استأذنت مغادرة، لألمح اطفال القتيل ساهمين، وانا أعبر حوش منزلهم. ضاقت علي نفسي، وأنا أرى نظرة الضياع في أعينهم وهم يحاولون استيعاب الموت.
 
 لعل صغيرهم يتساءل بصمت: "هل سيرتدي ملابس العيد، أم أن لا عيد له هو أيضاً" ؟!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر