الحداثة على الطريقة الخليجية


محمد علي محروس

بعيداً عن الموقف السعودي المتشدد ضد كندا، بسبب تغريدة لسفارتها في الرياض حول حقوق الإنسان في المملكة أدت إلى دخول الوضع ضمن حسبة اقتصادية صرفة- ولا يزال في تصاعد؛ هناك على الطرف الآخر انكسار للموقف السعودي أمام تقرير للخارجية الأمريكية من عشرات الصفحات يدين الحالة ذاتها، لم يُقابل حتى بتعليق مقتضب من باب الرد.
 
 يبدو مثل هذا الأمر مثير للغاية، في ظل تباين المواقف، رغم تشابه الأسباب. فتغريدة تقطع علاقات دولتين، فيما تقرير من خمسين صفحة لم يستحق مجرد الرد عليه بوجه أو بآخر!
 
بعيداً عن الخضوع الإماراتي للتنين الصيني في معارك السيطرة على طرق التجارة البحرية العالمية، واستسلام أبوظبي للهيمنة البحرية الصينية، إضافة للكساد الذي تعيشه العاصمة الاقتصادية دبي..، وبعيداً أيضاً عن الحروب الباردة التي تخوضها دول الخليج بينها البين، نجد أن السعودية والإمارات تواجهان عمان حدودياً، وفي مناطق يمنية متاخمة للسلطنة.
 
وفي سياق مشابه، عُزلت قطر عن محيطها الخليجي، بفعل المحاولات المضنية لإثناء الدوحة عن مواقفها الواضحة حيال تطورات المنطقة وانفتاحها العالمي سياسياً واقتصادياً ورياضيا. وعلى حياء تحاول المملكة والإمارات مناورة الكويت للانخراط ضمنياً في إطار سياستهما الملفوفة بالحداثة!
 
الحداثة الخليجية المطعمة بالفوضى، ينهك الداخل حقوقياً ومعيشياً واقتصاديا، كما يدخلها في معمعة الحسابات الضيقة للقوى الكبرى في المنطقة؛ إذ تشكل دول خليجية بعينها، جسور عبور لمشاريع التقسيم الموعودة، والعمل بوتيرة عالية لإفساد برامج الديمقراطية الوليدة وقتل تطلعات شعوب الربيع العربي في مهدها. يحدث ذلك كله دون فائدة تذكر، إلا من قبيل تنفيذ الإملاءات الغربية، التي تعتبرها هذه الدول نوعاً من التقدم والتغيير نحو الأفضل والانفتاح على العالم الآخر.
 
شخصياً، أرى أن السعودية وقعت في فخ كبير، أُعد لها بعناية واهتمام فائق؛ بدءاً بحرب اليمن، التي لم تتعامل جذرياً مع أسبابها الأولى فكان أن أصبح الوضع على ما هو عليه اليوم! ومن المرجح أن يتطور بشكل سلبي في حال استمرت السياسة السعودية سياسة مطمورة بتضامن الآخرين وحسبة عدم التعرض للقوى الكبرى.
 
 
 كما وقعت السعودية في فخ التغيرات الموعودة في المنطقة، فإنها وقعت في فخ آخر سيعجل من اضمحلال اقتصادها النفطي. يتمثل ذلك في القرارات الداخلية التي يراد بها ترميم البيت السعودي بتطفيش العمالة العربية الأخرى، في الوقت الذي لا يستطيع فيه غالبية السعوديون التكيف مع أجواء العمل بسبب سياسات المملكة الأولى، التي لم تعنَ بالإنسان، واهتمت بالنفط وصفقاته الكبرى واعتمدت عليه كلياً في توفير كافة احتياجاتها.
 
السياسة الاقتصادية السعودية اليوم، سياسة عكسية مع متطلبات العصر. فالتأهيل التنموي البشري قاصر للغاية، والأيدي العاملة ورؤوس المال، من الجنسيات الأخرى، لم تعد تجد ضالتها في المملكة؛ لا بيئة استثمارية خصبة، ولا تشريعات مسهلة للاستثمار، ولا رؤية واضحة للمستقبل السعودي الذي سيُصدم ذات يوم بكونه وحيداً لا منقذ له ولا معين..!
 
على مقربة منها، تبدو الإمارات أكثر المستفيدين من هذه المتغيرات الداخلية والاقتصادية للمملكة. فباتت مسيطرة على السوق السعودية رغم حالتها المتردية نظراً للسياسة الهوجاء في اليمن؛ فضلا عن استخدامها كبوليس غربي في المنطقة، ففقدت أذرع السلام، وانهمكت في صناعة الفوضى وتحوير إرادات الشعوب بالقوة المفرطة.
 
من بين دول الخليج، يمكن ملاحظة أن هناك دولتان منهمكتان في شأنهما الداخلي، إصلاحاً وتطويراً، هما: عمان والكويت. ورغم التباين الواضح في سياستهما الخارجية، إلا إن آلياتهما الداخلية متشابهتان إلى حد كبير. ومن بعدهما قطر، التي نجدها منهمكة داخلياً في برنامجها الإصلاحي التقدمي، وفتح آفاق واضحة لسياستها الاقتصادية على مستوى العالم، مع دبلوماسية عالية وذكية في التعامل مع القضايا الجوهرية على مستوى المنطقة. والتي- شخصيا- أجد من بينها وعلى رأسها: انتصارها لإرادة الشعوب والعمل على تمكينها من إدارة شؤونها الداخلية. وهي مواقف عُرفت بها قطر منذ اندلاع ثورات الربيع في يناير 2011م.
 
عموماً، تظل الحداثة الخليجية الطاغية منحصرة بين: أيهم يبني أكثر، وأيهم يَعلي بناؤه أكثر، وأيهم يخنق شعبه بالقرارات الداخلية أكثر؟!
 
وهي من وجهة نظرنا، حداثة لا تملك ما تستند إليه، ولا ما تبني عليه..! إلا من تقليد، أو تفاخر، أو تبعية مفرطة لسياسات الآخرين، وإملاءاتهم ذات المآرب الأخرى، وإضافات لا يمكن غض الطرف عنها، بالنظر إلى واقعنا المتأزم بفعل جسور العبور الخليجية.
 
إن الوضوح المستقبلي لدول الخليج، إذا ما أردنا ترتيبه، يضع قطر في المقدمة، تليها الكويت، ومن ثم سلطنة عمان، والآخرون في كفة واحدة يملكون حق تشكيل سياستهم الداخلية القمعية، وليس لهم من قرار على مستوى السياسة الخارجية والمواقف التي يبنون عليها تلك القرارات.
 
وما نخشاه، هو أن تنزلق دول الكفة غير المرجحة في متاهة اللاعودة. حينها ستستمر في غزل الحداثة المتناثرة على الأرض، وسندفع نحن الضريبة، وإن كنّا قد بدأنا ذلك بالفعل!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر