عن مدينة الألم..!


محمد علي محروس

   كتبت نصاً للوهلة الأولى، بعد أشهر من صدمة الحرب التي اجتاحت المدينة.. هكذا دون مقدماتٍ، نفثت فيه حبر تسعة أشهر من المشاهدات الحية، من الواقع الذي كان يعيد ذات المشاهد يوميا.. القذائف التي تتسابق نحو ضحاياها، الصواريخ التي تصطاد البنايات العالية بمن فيها صباح مساء، الخوف والهلع المسيطران على كل شيء، الحصار المُطبق المدروس بعناية فائقة، الخدمات التي توقفت بين ليلة وضحاها، السلع الأساسية التي شحت وكادت أن تنعدم، مقومات الحياة التي استنزفت كلُها عدا الأكسجين، الجوعى، القتلى، الجرحى، الثكالى، المشردون، المُهجّرون، النازحون، البائسون، المتذمرون، المثبطون، المتمردون، والدمعة التي تغرق المدينة بالحزن والأسى؛ لتوسمها بوسم الألم!

مرت ثلاث سنوات ونصف، على كل ما سبق، رقعة المشاهد الصادمة توسعت، تجاوزت المدينة إلى الريف، وهناك أفرزت مشاهد للألم لن تتلاشَ، وأحدثت جروحاً لن تندمل مع تعاقب الزمان.. وسط هذه الحالة القاتمة، لم تكنِ المدينة خانعةً مستسلمة، فمن فيها يدركون جيداً أنهم يدفعون ضريبة وقوفهم إلى جانب الجمهورية، ويعلمون حقاً، أن تجاوزهم يعني تشييع الوطن إلى عالمٍ آخر من الفشل والاستبداد والاضطهاد، لذلك لم يُسلّموا، واختاروا المواجهة، مهما كان الثمن.

الآلاف تهافتوا لصد الزحف القادم من شمال الشمال، ومن خلفهم مئات الآلاف يرفدونهم بالعزيمة والإرادة والمئونة المتوفرة، كلٌ علِمَ مهامه فنفذها بحذافيرها، واستطاع الأبطال بإمكانياتهم المتاحة، كسر الحصار، وفتح ثغرة نحو الأمل من وسط مدينة كللها الألم.. ملاحم بطولية، وأساطير ستحكى في العالمين، وبطولاتٌ ستتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ولن تُنسَ الآلام مهما كان مذاق الانتصار، لأنها لم تكن من المعتدين فقط، بل كانت أيضاً من عصبة تدّعي معيتك، وتوهم العامة أنها إلى جانبك، وهي لا تبتغي إلى الحق سبيلا!

أذكر أني كتبت بعد حين مقالاً نشرته مواقع عدة عنونته " أين تعز؟! "، حاولتُ من خلاله لفتَ النظر إلى حقيقة ما يجري فيها، والإهمال المتعمد التي تتعرض له، فبعد أن فُرض عليها أن تواجه وتصد وتقف في وجه المشروع الهمجي، تُركت وحيدة، لا معين لها ولا نصير ولا مغيث، لم تُمد بالسلاح، ولا بالمعونات الإغاثية، ولا حتى بفك الحصار الذي أذاقها وأهلها الويلات، سقت في مقالي ذاك تساؤلاتٍ عدة، لكنها لم تحظى بأي إجابة، شأنها شأن صرخات الأطفال والنساء، وأنين الشيوخ، ومناشدات المسئولين، واستغاثات الجرحى والمكلومين.. بعد مدة أجابنا رئيس هيئة الأركان حينها، فقال: تعز قطاع منفصل!

فرض الأبطال واقعاً أرغم الجميع على التعامل معهم كرقم صعب، لا يمكن تجاوزه، ففكوا الحصار من جهة واحدة، ولملموا شتات بعض المؤسسات ليعيدوا إليها الحياة، ووصلت حملات الإغاثة التطفيفية، على المستويين المعيشي والصحي، وبدأت الحياة تدب شيئاً فشيئا، ومن نزح وتجرع آلام التشرد عاد تحت عنوان " الدبابة ولا الذل والمهانة"!

ما استجد اليوم، يحاول أن يطمس انتصارات الأمس، وأن يعيد الألم الذي لا يزال يلوّح في الأفق بأساليب منمقة، ويعمل جاهداً على إقصاء المنافحين عن مشهد ترميم وجه مدينتهم، ورسم لوحة الأمل على ملامحها كما تخيلوها عند أول قرار اتخذوه لمواجهة الألم المستشري يومها!

التضحيات والبطولات، يحاولون ذرها كالرمل، ودفنها في الصحراء إلى الأبد، فلا تكريم للشهداء، ولا إحسان لذويهم، ومواساة لأسرهم، ولا اهتمام فعّال للجرحى، الذين تنازلوا عن أعضائهم، ونضارة أعمارهم، من أجل مدينتهم، تحمّلوا الآلام، واحتملوا الإهانات، وتلقوا الوعود تلو الوعود كالسيل الهادر، وعند التنفيذ منهم من قضى نحبه، ومنهم من تُرك في منتصف الطريق، يواجه مصيره وحيداً، رغم الميزانيات المعتمدة، والملفات الطبية الفائضة بالتشخيصات المتنوعة، والحالة الصحية والنفسية التي لا يستطيع أحد تجاوزها.

أن تخاطر لهوىً تملّك قلبك، حتى وإن كان دفاعاً عن الوطن والأرض والعرض والمكتسبات، فعند البعض جريمة جسيمة، ادفع ثمنها أنت، مع إيمانهم الدامغ أنهم ما كانوا ليكونوا حيث هم اليوم لولا تضحياتك وبطولاتك وإقدامك.. ما الذي دفعك لذلك؟

يقولون هذا، بعد أن أخذوا الجمل بما حمل، وتركوا آلاف الجرحى في تعز فقط، يواجهون مصيرهم؛ جراء الإهمال المستقصد، والتعنت الذي رأيناه، وقرأنا عنه، باختيار لجان مختلسة، وأخرى لا تتوافق مع الجرحى في الإيمان بالقضية، وأخرى كانت تعمل لحسابات الطرف الآخر وحين حمي الوطيس غادرت المشهد من باب النفوذ بالجلد، وحين أتيحت الفرصة، عاد بدافع الانتقام؛ ليضيق أبناء جلدته الويل والثبور.

سندفع جميعاً، فاتورة إقحام القضايا الجوهرية والمصيرية في خلافاتنا السياسية، وجرها في أتون ملفات الصراعات الحزبية، واعتبارها نقطة قوة لدى طرف ونقطة ضعف لدى الآخر، وورقة للمساومة من أجل النيل من التيار الفلاني أو ابتزازه وإحراقه جماهيرياً، وسط هذه النتوءات المؤلمة، يكابد الجرحى آلامهم في الهند والسودان ومصر، ولا من معين.

 أخيراً، لم يكذب من قال: كل الحروب تنتهي في الغالب بثلاثة جيوش، جيش من الجرحى والمعوقين، وجيش من الأمهات والأرامل اللاتي يندبن أبنائهن وأزواجهن، وجيش ثالث من اللصوص .
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر