تقويض الشرعية في اليمن


نبيل البكيري

كشف مرور ثلاث سنوات من الحرب في اليمن كثيرا من خفايا المشهد، والمفاعيل التي تسببت بهذه المدة الطويلة من الحرب، وما أحدثته من ويلات ومأسٍ، من دون أن تحقق هذه الحرب في سنواتها الثلاث حتى الآن الهدف المعلن منها، فكان المواطن اليمني وحده من قدم تضحياتٍ كثيرة، وتحمّل تبعاتٍ كثيرة وصلت حتى تهديد لقمة عيشه، مع انهيار تام للعملة اليمنية أخيرا، مع ارتفاع الأسعار، وتعطل العملية الاقتصادية في البلاد. 
 
فبعد ثلاث سنوات من الحرب، يتبين أنه كان يمكن اختصارها، وتحقيق الأهداف التي تتوخاها بأقل التكاليف والخسائر، بالنظر إلى توفر كل ممكنات الانتصار في هذه الحرب، وفي مقدمتها عدم وجود حاضنة اجتماعية لجماعة الحوثي، وتشوه صورتها من خلال ممارساتها القمعية وفشلها الإداري وفسادها الكبير، عدا عن فشلها الذريع في الحصول على أي اعترافٍ بسلطتها الانقلابية.
 
في المقابل، ما الذي جرى؟ لماذا فشل التحالف في استكمال استعادة الشرعية اليمنية، وهي التي باتت مسيطرة على ثلثي مساحة اليمن؟ ما الذي يمنعها من العودة إلى الداخل، وممارسة كامل مهامها ومسؤولياتها هناك؟ لماذا كل هذا التضارب في الأجندات وتناقض المصالح الذي يمضي عليه التحالف العربي، ما أدى إلى تقويض مؤسسات الشرعية في مقابل بناء مليشيات بديلة للشرعية الدولة اليمنية.
 
كانت ثلاث سنوات كفيلة بكشف كل ما خفي من تضارب الأجندات وظهورها على سطح المشهد، وكانت تبدو للمراقب العادي، فضلا عن مسؤولي الشرعية اليمنية الذين أسهموا بصمتهم عن ممارسات التحالف التي غدت، مع الأيام، خطايا متعمدة ومقصودة، لا مجرد اجتهاد سياسي من هذا الطرف أو ذاك، وإنما توجه واضح المعالم والأهداف، منذ اللحظة الأولى، مثل تأسيس كيانات مسلحة خارج مؤسسات الدولة، منع عودة الحكومة إلى الداخل، إغلاق المطارات والموانئ اليمنية، وقف تصدير النفط والغاز من دون أي مبرر منطقي مقبول، وإنما لسياسيات استحواذية واضحة للإمارات في جنوب اليمن.
 
لم تكن كل هذه الممارسات مجرد أخطاء، بل خطايا كبيرة وجسيمة متعمّدة لضرب الشرعية في مقتل، وساهمت في إضعافها وانحسارها، وتقويض مؤسساتها التي تمثلها أمام المواطن اليمني الواقع بين رحى الحرب وويلاتها التي فاقت كل التوقعات، بفعل طول أمدها وغياب تام للمجتمع الدولي ومؤسساته التي تحولت، هي الأخرى، إلى واحدةٍ من أدوات إنعاش الانقلاب واستمراره.
 
انكشف دور الإمارات جليا، طرفا لم يكن مدعوا من الشرعية إلى طرفٍ متحكم رئيسي في مسار الحرب ونتائجها، التي تتشكل على الأرض، وخصوصا في المناطق المحرّرة جنوبا وغربا، حيث سعت الإمارات، منذ اللحظة الأولى، إلى بناء مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وشكلت مليشيات مسلحة، بعقيدة قتالية أشبه بعقيدة شركة بلاك ووتر، ساهمت من خلال هذه المليشيات في تعطيل كل المؤسسات السيادية لليمن وضربها، المطارات والمؤانئ والمعابر، والاستحواذ على أهم الجزر اليمنية في البحر الأحمر والعربي ومضيق باب المندب.
 
فلم تكتف الإمارات بإنشاء هذه المليشيات المسلحة فحسب، بل سعت إلى تشكيل ما يعرف بالمجلس الانتقالي الجنوبي، كيانا سياسيا موازيا لكيان الشرعية في هذه المناطق، والدفع به ودعمه ممثلا وحيدا لليمنيين في المناطق المحرّرة جنوبا، مشتغلة على تناقضات الحالة الفصائلية جنوبا، والتي تشكلت في أثناء الحرب وقبلها، بفعل حالة التشظي في المشهد السياسي الجنوبي.
 
واليوم، وبعد تعطيل مسار الشرعية جنوبا، تسعى الإمارات إلى ممارسة الدور نفسه شمالا، من خلال دعم مليشيات مسلحة وتشكيلها خارج مؤسسات الشرعية اليمنية، وهو سلوكٌ تسعى إليه الإمارات، من خلال شخصيات تنتمي لنظام علي عبدالله صالح، وأفراد أسرته الذين هزموا عسكريا في مواجهة حلفائهم من جماعة الحوثي، ومقتل صالح بتلك الطريقة دليل على فشل هذه الشخصيات التي تسعى الإمارات إلى أن تضفي عليها أوهام الإنقاذ من جماعة الحوثي.
 
فخروج مهذه الشخصيات وهروبها من صنعاء إلى مناطق الشرعية، وعدم اعترافها بهذه الشرعية، واعتذارها عن كل ما ارتكبته في حق الشعب اليمني تحت مظلة الانقلاب الذي كانت شريكا رئيسيا فيه، كل هذه يضع أمامها علامات استفهام كثيرة بشأن طبيعة دورها في المرحلتين، السابقة والحالية، فكيف يتم دعمها، وهي المتمرّدة على الشرعية التي جاء التحالف العربي لاستعادتها ودعمها.
 
وهكذا بدت ملامح تقويض الشرعية اليوم أكثر وضوحا في السياسات التي تمارس على أرض الواقع، من دفع الإمارات ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تصعيد الموقف ضد الشرعية، وإعطائها مهلة زمنية لتغيير الحكومة، وفرض حالة الطوارئ، والتعاطي مع المشهد وكأن هذا المجلس سلطة أمر واقع انقلابية، لا يختلف كثيرا عن مليشيات الحوثي الانقلابية في صنعاء. ليس هذا فحسب، بل دفع الإمارات إلى تدريب مليشيات خارج مؤسسات الدولة، ولها علاقة بنظام صالح السابق، وأفراد أسرته التي تدور حولها شبهات كثيرة، وفي مقدمتها مساهمتها في جرائم حرب ارتكبت سبع سنوات من الثورة اليمنية الفبرايرية الربيعية.
 
ويأتي في هذا السياق، في ردة فعل على هذه السياسة، تصعيد الرئيس عبد ربه منصور هادي، واحتجاجه عن هذه السياسات الإماراتية تحديدا، وتغاضي المملكة العربية السعودية عنها بدرجة كبيرة، ما يدفع بعضهم إلى القول إن ما تقوم به الإمارات في اليمن هو بمثابة تبادل أدوار مع المملكة، في سعيهما إلى تفتيت اليمن، وإبقائه دولة متشظية ضعيفة مفكّكة، وإن كان هذا الهدف ليس في صالح الأمن الاستراتيجي للدولتين، خصوصا المملكة التي يمثل لها استراتيجيا وجود يمن قوي ديمقراطي اتحادي صمام أمان لها أمام المشاريع التفتيتية الطائفية التي تستهدف المملكة تحديدا، وتفكيكها إلى كانتونات طائفية وقبلية ومذهبية.
 
كانت ثلاث سنوات كفيلة بإسقاط الانقلاب واستعادة الشرعية، لكن هناك هدفا غير هذا، واضحا واستراتيجيا للأطراف المنخرطة في صفوف الثورة المضادة للربيع العربي، وضرب كل القوى الحاملة لهذه الثورة، على الرغم من كل الخسارات الاستراتيجية التي كشفت المنطقة كلها، بفعل سياسات الثورة المضادة التي ساهمت بتقدّم المشروع الإيراني في المنطقة، واكتساحه المنطقة، إلا أنه لا أحد قدّر حجم هذه التداعيات الجيوسياسية التي قوضت أربع دول عربية من على الخارطة، وفي طريقها إلى تقويض ما تبقى من شظايا الجغرافية العربية التي لا تتجاوز أعمارها السياسية نصف قرن.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر