نجد في مفتتح كل قرن سلسلة من الأحداث المؤثّرة وكأنها افتتاح لمسلسل أحداث تعبر عن هذا العالم المعقد. ومع بداية القرن الحادي والعشرين (بداية الألفية الثالثة) بدت لنا جملة من الأحداث التي وصفتها مقالات سابقة للكاتب بمنعطفات تاريخية، أهمها أحداث 11 سبتمبر (2001)، الانتفاضة الفلسطينية التي سبقتها بعام، ثم أعقب ذلك بعشر سنوات حدثٌ مفاجئ متتابع، الثورات التي شهدتها عدة دول عربية، بدأت في تونس، ثم انتقلت إلى مصر كمركز ثقل في العالم العربي، ثم ليبيا وسورية واليمن، وتوالت مواجهات أخرى في محاولة للتغيير، مثل العراق ولبنان والجزائر والسودان، وبدرجة أقلّ في المغرب والبحرين، وبدت هذه الدول، وبرغبة منها، أنها تُحدث قدرا من التغييرات، تستوعب حدث الثورات الذي فاجأ كثيرين في العام 2010/ 2011؛ إنها الثورات العربية.
 
هذا حديث عن الثورات وليس فيها؛ وهو ما يقتضيه هذا الموضوع والإجابة عن السؤال: كيف تعتبر الثورات منعطفا تاريخيا؟ يعبّر المنعطف التاريخي عن حدث استثنائي بكل المعاني المختلفة للفظة استثنائي؛ ولكنه يعني، ضمن ما يعني، رغم تلك الاستثنائية، أنه يملك تأثيرا دائما أو شبه دائم. هذا التوصيف التاريخي، إذا ما انطبق؛ لن يجد له خير تمثيل من فترات الثورات التي تعيشها المجتمعات، ليمكن تسميتها ووصفها ووسمها بأنها منعطف تاريخي يملك مقومات ذلك كله، من دون اعتساف أو مواربة أو مداهنة.
 
ومن الأمور المقدّرة والأحداث المتلاحقة للثورات ذلك الاختلاف الذي حدث لوصف تلك الثورات وتسميتها، وإلحاقها بأوصاف كثيرة، اختلفت كلها وتنوّعت في الوصف، لأسبابٍ أو أخرى، ولكنها اجتمعت على أن هذه الأحداث لم تكن مصادفة أو عفو الخاطر، خصوصا مع تكرارها وامتداداتها والموجات التي أعقبتها، فمثلت، مع حال صعودها وبزوغها، وكذلك مع حال محاصرتها وتطويقها والمحاولات التي ابتدعها المضادّون للثورة في محاولة سرقة هذا الفعل الثوري، بل وحرفه من لصوص التغيير ضمن عملية إحلال متعمّدة لعسكرة الثورات والحروب الأهلية. وأيا كانت تلك الأوصاف، لا يمكن أن ننكر تلك الأحداث تاريخا وزمنا وحجم تأثيرها على الحال والمجال، وكذلك في المآل والاستقبال التأثير الذي كان ملحوظا وباديا حتى من ردود أفعال المضادّين للثورات الذين بنوا استراتيجية محاصرة وتطويق، وعمليات تشويه متعمّدة في النظر إلى تلك الثورات وكذلك التطبيق.
 
لعله من أكبر التحديات التي لا يماري فيها أحد في علاقتنا بظاهرة الثورة أنها لم تأت على نسقٍ سابق. جاءت هذه الثورات كاشفةً ومربكة للجميع؛ للحركات الإسلامية بطيفها الواسع، للشباب الثوري، وللأكاديميين أنفسهم؛ بل لعلنا لا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا إن هذه من أهم الثغرات الهائلة التي أوتينا منها. دراساتٌ كثيرة صدرت لتحلل هذه الظاهرة في إرهاصاتها الأولى سقطت في شَرَك الأنساق الأكاديمية السائدة؛ فبعض الدراسات تعاملت مع ما يجري في بلادنا أنه امتداد منطقي طبيعي لثورات أوروبا الشرقية أو الثورة الفرنسية الأم! وردّها بعضهم إلي مقولات الثورة البلشفية! وأخذ آخرون، للغرابة، يتعسفون التأويل ليجعلوا لها نسبا في رحم الثورة الإيرانية!
 
ولعلّ منزع الغرابة الشديد يكمن في أن هذا التخبط يصدر عن أكاديميين يُفترض فيهم التخفّف من النزعة الأيديولوجية، إذ لو صدر مثل هذا الاعتساف واللّيّ في تفسير الثورة عن نشطاء لقلنا إن هذا مفهوم وإنْ لم يكن مبرّرا، فالتساهل في خلع وصف الإسلامية على الثورة لكون أغلب تظاهراتها الحاشدة كانت تخرُج من المساجد أو لأنها نادت في أحد شعاراتها بالكرامة الإنسانية لا يختلف كثيرا عمّن يصفها بالليبرالية لكونها نادت في الشعار نفسه بالحرية، وهما توأمان لذلك الذي ينْبِش عن حسٍّ يساري فيها، لكونها نادت بالعدالة الاجتماعية! لم يكن ذلك إلا تساهلا واختزالا لا يليق أبدا بظاهرة شديدة التركيب كالثورات، ولا يليق بتحليل الظاهرة الثورية في امتداداتها وتأثيراتها ومآلاتها.
 
والإشكال الأكبر هنا أن هذا التهاون الأكاديمي لم يتوقف عند هذا الحد في تحليل الظاهرة. إذ حينما كَشّرَ المضادّون للثورة المضادّة عن أنيابهم، وباتت الثورة أو الربيع العربي، على ما في التسمية من نكهة استشراقية، يعاني خريفا وشتاء، عند التفكير بالثورات العربية، تحدّث بعضهم أنه بعد سنوات من تلك المسيرة المُحبطة لما سُمّي الربيع العربي، تجاسر كثيرون، وبعضهم ممن سبق واحتفى بها إلى حدّ الهوس، فأطلقوا عليه الوصف الضد بالمقابل: الخريف العربي، على اعتبار أنه الفصل السياسي الذي لم يُثمر في نظرهم إلا الحروب الأهلية والتمزّق الاجتماعي والتناحر السياسي وسيادة منطق الفوضى واستشراء ذلك كله في مكانٍ تُشرق فيه شمس هذا الخريف/ الربيع؛ راح الأكاديميون يتخلّون بكل بساطة عن كونها أصلا ثورة، وراحوا يخلعون عليها أوصافًا من قبيل هَبَّة أو تمرّد أو احتجاجات واسعة وانتفاضة للتعبير عنها، هكذا تغيّرت أوصافهم، وكذا تحليلاتهم بتغيّر فصول السنة! ومَرَدُّ هذه الرؤية الاختزالية والآنية، ابتداءً وانتهاءً، يعود إلي فكرة التساهل والتسرّع في إصدار الأحكام. ابتداءً في تفسير الظاهرة الثورية في نسختها العربية وفق مقولات الثورات التاريخية ونظرياتها.
 
ولأن الظاهرة كانت في طوْر التشكّل والتفاعل؛ وفيها من القابلية للانفتاح على سيناريوهات متعدّدة فقد آلت إلى حال غير التي بَشَّرت بها في بادئ أمرها؛ فأدّى ذلك انتهاءً، في التحليل الأخير، إلى وصمها بأنها أقلّ من ثورة، أو أنها هَبّة أو فورة، لأنها لم توافق النماذج القديمة في مآلاتها. وكأنهم جعلوا من الثورات التي حدثت في الغرب نموذجا، وربما معيارا لكل ثورات قادمة؛ وغنيٌّ عن البيان أن كل ظاهرة هي بنت سياقها ولها خصوصياتها في الزمان والمكان؛ والثورة العربية كذلك بنت سياقها ووليدة مجتمعاتها. بل لعلّنا لا نخطئ الرمية إذا قلنا إن الثورة العربية لا تشبه غيرها من الثورات الكلاسيكية القديمة. فكل هذه الثورات تأسّست على مجموعة من العناصر ربما غابت كلها أو بعضها في الحالة العربية!
 
هذا الإشكال المنهجي في دراسة الثورات سببٌ رئيس في النظر ببادي الرأي من دون عمق وتدقيق وتحقيق في الوصف والرصد، بل في التحليل والتفسير. ويؤثر، بشكل كبير، على كل الخلاصات والمتحصّلات والنتائج التي ينتهي إليها ويجعلها محلّ شكّ ومُساءلة؛ إذ كيف تمتلك القدرة على الحديث من زاوية بناء تقديرات المواقف للحراك أو للثورة، وأنت تعالج الظاهرة مُستصحبا هذا الخلل المنهجي الخطير. أوجه القصور المختلفة تلك هي التي تُفسد كل تصوّراتنا عن الظاهرة، وهو ما يدعونا إلى ضرورة تأسيس رؤية منهجية واعدة وواعية لدراسة الظاهرة الثورية دراسة رصينة، تمكّننا من حسن فهمها والتنبؤ بسلوكها والتعاطي معها والتعرّف على مآلاتها ومستقبلها.
 
وربما لا نغادر الحقيقة أن هذا التناول الاختزالي التابع لنماذج ونمذجة سابقة التجهيز كانت أحد أهم الأسباب في النظر إلى الثورات العربية باعتبارها حدثا عابرا لا يمكن أن نخلع عليه وصف "المنعطف التاريخي"، ولكن النظر إلى التحوّلات التي طرأت على بلاد الثورات من احتواء وانزواء، في حقيقة الأمر، أصاب الشارع العربي بمزيد من إحباط لما آلت إليه تلك الثورات العربية؛ وقدرة المضادّين للثورة وحلف المستبدّين من كيل الاتهامات لهذه الثورات، وجعلها أحد أهم الأسباب في عدم الاستقرار في المنطقة، إلا أننا، في حقيقة الأمر، يمكننا أن نتوقّع أو نتنبّأ أن ذلك الاستيعاب لذلك الاحتواء إنما يبشّر مع حدث آخر يتعلق بـ"طوفان الأقصى"، والذي أظهر تهافت الأنظمة العربية على نحو أو آخر أن يصدُر من قلب عالم الأحداث المتجدّد طبعة أكثر تماسكا وأقوم نضجا لتجمع شتات تلك الثورات؛ والتي يمكن أن تستردّ معه الأمة ثقة وعز وكرامة وإرادة، وربما إدارة لحالةٍ ثوريةٍ محتملة، تستعصي على عمليات الالتفاف والحصار.

(العربي الجديد)

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر