يبدو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه مدهشاً، يصيب بغير قليل من الحيرة والإرباك، نيتشه «الملحد» الذي قتل الإله ودعا إلى إحلال «الإنسان المتفوق» مكانه، نيتشه المبشر بتعاليم الأنبياء التي صدّرها على لسان زرادشت، نيتشه الذي حير الكثيرين وهو ينكر وجود الله في نص، ثم يقدسه في نص آخر، الذي يقول: «أتدرون أين هو الإله؟ سأخبركم! لقد قتلناه نحن، أي نعم نحن، أنتم وأنا، نحن جميعنا قتلناه» والذي يكتب نصوصاً أخرى تقطر عذوبة وإيماناً، من مثل:
 
«أرفع اليدين نحوك، نحو من أبحث عنده عن ملاذ، أنت يا من أقمتُ له الهياكل الفخمة في أعماق قلبي. فلينادني صوتك في كل الأوقات. منحوتة هذه الكلمات، تبرق للإله المجهول…أيها المجهول، أريد أن أعرفك، أنت يا من تدخل عمق روحي، أنت يا من تعبر قلبي مثل عاصفة، أنت يا من يتعذر الإمساك به، يا أيها القريب: أريد أن أعرفك، أريد أن أخدمك».
 
وهو نيتشه الذي يدعو لهدم القيم، ويطالب بتبجيل الحقد والغضب وحب الذات ورفض الرحمة وتقديس الحسّيّات، ثم يعود ليطلب التضحية والتعالي على الصغائر، والسعي للخير والجمال ورفض الظلم والاستعباد، نيتشه الذي كان يعاني من نوبات اكتئاب وجنون، والذي مات مجنوناً بالفعل، هو ذاته نيتشه الذي ساق جواهر الحكم والأدب التي اقتفى أثرها فلاسفة وشعراء وأدباء كبار، نهلوا من معينه وألهمهم لكتابة أعمال خالدة.
 
لكن هذا التناقض المحيّر يبدو ـ للكثيرين ـ ظاهرياً وحسب، لأن هذا الفيلسوف كان يكفر بإله معين، ولكنه يوقن بإلهه الخاص، تماماً كما يكفر بقيم محددة ويدعو لقيم أخرى يراها أكثر نبلاً، أو أنه يرفض تصوراً معيناً لتلك القيم، ويدعو لتصوره الخاص كما يبدو من كتاباته المختلفة.
 
وفي الوقت الذي رأى فيه كثيرون أن نيتشه زعيم التمرد والإلحاد والثورة على القيم وصف فيلسوف الإسلام محمد إقبال نيتشه بوصف عجيب صادر عن «فيلسوف مؤمن» في حق «فيلسوف ملحد» حيث قال إقبال عن نيتشه إنه «عبقري عظيم لم يتمكن من إخراج كل طاقاته، ونبيّ من أنبياء العصر خانه حواريوه».
 
بل إن إقبال فيما يبدو تأثر بنيتشه في كثير من أفكاره عن «الإنسان الكامل» من منظور إسلامي، وهو المعادل الإسلامي لفكرة نيتشه عن «الإنسان المتفوق أو السوبرمان» كما تحدث إقبال عن «موت النبي» وهو المقابل الإسلامي لمفهوم نيتشه عن «موت الإله» مع توافق الهدف من الاصطلاحين المختلفين، حيث أراد إقبال أن يقول إن مسؤولية نهوض الشرق المسلم تقع على المسلمين أنفسهم، لأن الوحي قد انقطع والنبي قد مات ولا يجوز الركون للغيبيات، وبالتالي فلكي يخرج المسلمون من عصور التخلف فعليهم أن يكفوا عن انتظار المخلصين، وأن يبدأوا هم بتخليص أنفسهم، بعيداً عن ثنائية «السلطان والدرويش» وهي ذات الأفكار التي قصدها نيتشه من مصطلحه «موت الإله» الذي أراد من خلاله أن يبث في الغرب الأوروبي روح النهوض، بعيداً عن الإله الذي لا يبدو قادراً على بث الشباب في «أوروبا العجوز» والذي «لم يستطع الدفاع عن نفسه» أو الإله الذي «قتلته رحمته» وبذا تكون شروط النهوض الأوروبي مناقضة لثنائية «الملك/الكاهن» الأوروبية التي يقابلها على الضفة الإسلامية ثنائية «السلطان/الدرويش» حسب محمد إقبال.
 
من هنا نلحظ أن نيتشه انطلق من المنطلقات ذاتها لإقبال، غير أن الأول رأى أنه لكي تتم عملية النهوض فلا بد من «هدم المعبد» في حين دعا إقبال إلى «إصلاح المعبد» من أجل تحقيق الهدف ذاته، وذلك واضح من خلال طبيعة المصطلحات التي استعملها كلا الفيلسوفين.
 
وفي الوقت الذي قال نيتشه فيه: «لقد مات جميع الآلهة، أما الآن فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان المتفوق» فإن إقبال يرى أنه قد مات جميع الأنبياء، ولم يبق لنا إلا «الإنسان الكامل» علماً بأن فكرة «موت النبي» تعد نوعاً من التجديف لدى بعض التيارات الصوفية التي تؤمن بأن النبي لا يموت، وهو المفهوم «الدراويشي» الذي أراد إقبال أن يهدمه، مستنداً إلى نصوص واضحة من القرآن تتحدث عن موت نبي الإسلام نفسه.
 
يمكن من هنا الخلوص إلى أن نيتشه لم يكن ملحداً بالمعنى الحرفي للإلحاد، ولكنه كفر بما يمكن أن نسميه «إله الكنيسة» الذي تم توظيفه لخدمة الملوك والكهنة الذين عاشوا على عرق ودماء الشعب الذي دجنه هذا «الإله الكنسي» الذي قتله نيتشه، وطلب على لسان زرادشت بالتخلص منه، حرصاً منه على أن يتولى «الإنسان المتفوق» قيادة نفسه وأن يحل محل الإله، مدفوعاً بشغف لا يقاوم ونزوع شديد للقوة التي جعلت من نيتشه فيلسوفها بلا منازع.
 
ولأن نيتشه كان عاشقاً للقوة، فقد دفعه ذلك العشق للثورة على التقاليد الأوروبية في جذورها المسيحية، سواء كانت تقاليد دينية أو اجتماعية أو ثقافية، كما دفعه ذلك إلى الانجذاب للإسلام وحضارته، حيث رأى في الإسلام اقتراباً من النموذج الذي سيطر على تفكيره وفلسفته العميقة التي رفضت إدارة الخد الأيسر للمعتدي بعد صفعة الخد الأيمن، ورأت في ذلك نوعاً من الضعف والأنوثة لا التسامح والتسامي، وعلى عكس ما دعا إليه الإسلام من الأخذ بمقتضيات القوة التي تشير إلى «رجولة» في ردع المعتدين.
 
ومع أنه لا يمكن مقارنة نيتشه بمواطنه الألماني فولفغانغ فون غوته في مدى الاطلاع على تراث الإسلام والتأثر به، إلا أن نيتشه الذي لم يكتب له الاطلاع الواسع على الحضارة الإسلامية كان منجذباً لتلك الحضارة، وقد وردت إشارات في بعض كتاباته الفلسفية وأشعاره، يتحدث فيها عن تلك الحضارة بشيء من الإعجاب، كنقيض للحضارة الغربية الأوروبية في أبعادها اليونانية الرومانية المسيحية، التي رآها نيتشه غارقة في الغيبيات والتجريد ولا تمجد الحياة الحسية، كما تفعل حضارة الإسلام، يقول: «إن حضارة إسبانيا العربية هي القريبة منا حقاً، وهي المتحدثة إلى حواسنا وأذواقنا أكثر من روما واليونان…لأن تلك الحضارة استمدت نورها من غرائز أرستقراطية، وغرائز فحولية، ولأنها تقول نعم للحياة، إضافة إلى طرائق الرقة العذبة للحياة العربية»…. بل إنه يشن هجوماً لاذعاً على الصليبيين الذين استهدفوا «عالماً كان الأحرى بهم أن ينحنوا أمامه ويضعوا جباههم على التراب، عالم حضارة إذا قارنا بها حتى قرننا التاسع عشر فإن هذا الأخير قد يظهر فقيراً ومتخلفاً» ويواصل نيتشه: «لقد كانوا (الصليبيون) يحلمون بالغنائم، ما في ذلك من شك، فالشرق كان ثرياً، لننظر إذن إلى الأشياء كما هي، الحروب الصليبية؟ إنها قرصنة من العيار الثقيل».
 
أما أشعار نيتشه فكانت تحوي إشارات إلى الحياة العربية، ورد فيها ذكر الشرق والنخلة والصحراء وبنات الصحراء الجميلات اللاتي كن رمزاً في قصائده لحضارة الشرق. يتحدث نيتشه عن نشيد «كنت قد أبدعته بين صبايا الصحراء، فعندهن دوماً نتنفس هواء الشرق الجيد النقي، هناك كنت أبعد ما أكون عن أوروبا العجوز الغائمة الرطبة»….
 
ثم يرسل نيتشه إشارة توضح لنا أن سبب إعجابه بحضارة الشرق الإسلامي يرجع إلى «قوة» تلك الحضارة، حيث عاش هذا الفيلسوف «ضعيف البنيان» يمجد القوة ويدعو إليها، يقول: «إن الصحراء تمتد، فويل لمن يريد احتواء الصحراء» ثم يرسل عبارة أخرى تحمل بعداً ثقافياً في قوله: «أرى النخلة مثل راقصة…تقف على ساق واحدة» في وقت يتوجه إلى «أوروبا العجوز» ليقول لها: «أيتها الكرامة انهضي…أيتها الكرامة الخيرة، كرامة الأوروبي، اعصفي واعصفي يا مذلة الفضيلة».
 
ومع كل ذلك، يبقى نيتشه فيلسوفاً عصياً على القولبة، نظراً للأبعاد الرمزية التي يحتملها نصه، والغموض الكبير في فلسفته والتناقض اللغوي الحاد في كثير من عبارات ذلك الفيلسوف الذي «ملأ الدينا وشغل الناس».
 

*نقلا عن القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر