لكلّ مجتمع هويته الثقافية والحضارية والتاريخية الخاصة به، الهوية التي تشكلها صيرورة التاريخ، وتعاقب الأزمان والأجيال، لتشكّل قيم هذا المجتمع وعاداته وتقاليده وتجاربه ورؤيته إلى الحياة التي تنعكس في عاداته وأزيائه وأشعاره وأهازيجه وأغانيه وقصصه وحكاياته وأساطيره وأمثاله، والهوية للمجتمعات كالبصمة الخاصة التي يتميز بها هذا المجتمع عن غيره.
 
الهوية تراكم ثقافي وفكري واجتماعي، تمر بمراحل وتحوّلات عدة، حتى تصل إلى ما وصلت إليه، من عادات وتقاليد وقيم وسلوكيات، وأفكار وحكم وأمثال. ويمكن القول إن الهوية هي خلاصة تجارب هذا المجتمع واستخلاصاتها، وهذا يقترب من مفهوم الهوية في علم الاجتماع الذي يقاربها من عدة زوايا، فالهوية، بشكل عام، تتعلق بفهم الناس وتصوّراتهم لأنفسهم ولما يعتقدون أنه مهم في حياتهم.
 
أما ما يتعلق بالحديث عن أزمة الهوية، فقد تفاقمت أكثر في عالم اليوم، وخصوصا العالم الثالث، وأصبحنا أمام ظاهرة يطلق عليها عالم الاجتماع والعلاقات الدولية الفرنسي، برتنارد بادي، "أثننة" العالم. وبحسب المفكر الراحل، عبد الغني عماد، أنتجت إحدى أدوات العولمة نقيضها، وأصبح خطاب الخصوصية الثقافية والهوية القومية يشكل مدخلاً أيديولوجيا تحتمي به الجماعات الاجتماعية المهمّشة لتحصين نفسها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الآخر. ولهذا، صراع الهويات البينية، إثنية كانت أو مذهبية، اجتماعية أو ثقافية، مسألة حديثة نسبياً في التناولات البحثية، والدراسات الثقافية عن مسألة الهويات، ولم تأخذ مداها الكامل في الدراسة والتحليل إلا أخيرا، مع تفاقم أزمة الهوية بأبعادها المختلفة، وطنية كانت أو ثقافية، وهو ما يجعل هذا المنحى من الدراسات يأخذ طابعا أكثر علميةً، ويفتح مجالا واسعا للتأمل والبحث في مسألة الهوية بمختلف تجلياتها الراهنة.
 
أما اليوم فمن تجليات العولمة التي تحدّث العالم عنها طويلاً، ووضع عنها وحولها الدراسات والأبحاث، لاستشراف ما ينتظر العالم من تحوّلات فكرية وثقافية واقتصادية هائلة، إلا أن المفارقات الغريبة كانت في هذا السياق عكسية تماماً، وهو أن العولمة التي تدعو إلى إذابة الهويات الصغيرة، فأدّت إلى نتائج عكسية مع بداية القرن العشرين. فمن مفارقات العولمة اليوم أن العولمة والانفتاح الكبير وذوبان الثقافات والهويات أخذت بريطانيا إلى صراع هوية بين الاسكتلنديين والبريطانيين. وحتى كندا الدولة وصراعها مع إقليم كيبك الناطق بالفرنسية، وإقليم الباسك في إسبانيا، وفي كلّ المجتمعات، بدأت تصعد ويظهر صراع هوياتي من نوع آخر، وكل هذه الصراعات تعبر عن تزاحم للهويات وصراعها في ظل تراجع فكرة دولة لكل مواطنيها، وصعود ربيع الحركات الشعبوية المتطرّفة.
 
الهوية للمجتمعات أجدها أكثر شبهاً بكريات الدم البيضاء في جسم الإنسان، من حيث الوظيفة، التي تؤدّيها هذه الكرات أو الجسيمات، التي لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تعمل في أصعب الظروف، لمواجهة التحدّيات التي تواجه جسم الإنسان، حيث تؤدّي كرات الدم البيضاء وظيفة التصدي للأجسام الغريبة والفيروسات التي تحاول الهجوم على أجهزة جسم الإنسان، وما تقوم به كرات الدم البيضاء في جسم الإنسان ضد كل ما يتهدّده هو بالضبط ما تقوم به الهوية الثقافية في المجتمعات ضد كل ما يتهدّد هذه المجتمعات، في ثقافتها ودينها وقيمها وعاداتها وأخلاقها واجتماعها السياسي وأمنها القومي.
 
الهوية إذن في المجتمعات هي أشبه بالمقاومة والممانعة في جسم الإنسان، وكلما شعر الأفراد والجماعات أن هناك تهديدات ثقافية واجتماعية وسياسية لمجتمعاتها، انتفضت الهوية لمقاومة كل ما يتهدّدها، والهويات في المجتمعات ظاهرة طبيعية وظاهرة نسقية اجتماعية تاريخية، حيث تتزاحم الهويات مع بعضها، وتتعدّد الهويات في مستويات مختلفة، تتعدّد وتتكامل في حال نجح الاجتماع السياسي في إدارة هذا التنوّع، أو تعدُد تضادّ في حال فشل الاجتماع السياسي في رسم إطار ناظم لتعايش هذه الهويات المتزاحمة معا بعضها. فالهوية مستويات عدة، فهناك الهوية العليا الكبيرة، وهي الهوية العامة، وبعدها الهوية الخاصة الذاتية أو الاجتماعية، التي نُنشأ عليها في محاضننا الأولى التربوية والأسرية والاجتماعية. وهذه، أي الهوية الاجتماعية والثقافية، التي تتخلّق مع الأيام، وهي ليست بقالب واحد، بل تتراكم ثقافيا وسلوكيا وتربويا، وكل ما يتعلق بنشأة الفرد، وما يتربى عليه من قيم وعادات ومبادئ، وما يتراكم معه من معارف وتجارب وسلوكيات وعادات وتقاليد لتصبح من أشكال الهوية للفرد والمجتمع، على حد سواء.
 
لكن السؤال المركزي والجوهري اليوم هو ألم تكن الدولة الوطنية الحديثة، ضمن أهدافها الكبرى، هو تخليق هوية وطنية جامعة كل أبناء الوطن الواحد، هوية وطنية عابرة للإثنيات والمذاهب والقوميات والأديان، تلك الهوية التي يتعايش في ظلها الجميع، ويقفون سواسية أمام قانون واحد، الدولة التي تمثل مظلةً لكل أبنائها بمختلف انتماءاتهم وهوياتهم الفرعية، فما الذي حدث؟ هل تصاعد صراعات الهويات اليوم بمثابة شهادة وفاة لفكرة الدولة الوطنية الحديثة من أساسها؟ وما المخرج اليوم من هذه الصراعات المتصاعدة من حولنا؟ وكيف يمكن العودة بالجميع إلى نقطة البداية، وهي أهمية فكرة الدولة الوطنية، مخرجا مهما لكل هذه الصراعات التي تتهدد مجتمعاتنا المعاصرة بالتشظّي والانقسام والاقتتال الدائم؟
 
كانت الدولة الوطنية ولا تزال نقطة حل جوهرية وحقيقية لصراعات مجتمعات القبائل والعشائر والمذاهب والطوائف، وهي فكرةٌ جديرةٌ بإعادة الاعتبار لها، وخصوصا في عالمنا العربي الذي يتهدّده عودة شبح حروب داحس والغبراء، وصفّين والجمل، وكل صراعات ما قبل الدولة الوطنية، وعقدها الاجتماعي، وأن الجميع اليوم مطالبون نخبةً وأحزاباً ومنظمات مجتمع مدني، بالوقوف جيداً في وجه موجة الارتداد عن فكرة الدولة الوطنية التي تمثل ولا تزال خريطة طريق لمجتمعات الهويات المتصارعة والمتزاحمة.
 
الدولة الوطنية الديمقراطية، التي فشل القائمون عليها في عالمنا العربي، وأوصلوا مجتمعاتنا العربية على مدى عقود إلى الكفر بفكرة الدولة من أساسها، لا تزال الحل الوحيد أمام هذه المجتمعات للخروج من شرنقة الصراعات العبثية التي أكلت الأخضر واليابس، على مدى هذه العشرية التي تواطأ بعضهم مع جنونها، ظناً منه أنه سيكون في منأى عن هذه المصير المشؤوم الذي آلت إليه الأحداث، وخصوصا في مجتمعات الربيع العربي.
 
الكارثة الكبيرة اليوم عدم الوقوف بصدق أمام أسباب ما تمرّ بهذه مجتمعاتنا من اقتتال دائم، تلك الأسباب التي كان أهمها وأولها فشل القائمين على مشروع الدولة الوطنية العربية الحديثة بمختلف توجهاتهم الأيديولوجية، يساراً ويميناً، هذا الفشل الذي جنى كثيراً على صورة الدولة الوطنية، وأساء لها كثيراً أيضاً، وحمّل فكرة الدولة الوطنية كلّ أسباب الفشل القائم.
 
وختاماً، كانت فكرة الدولة الوطنية وستظلّ المخرج والحلّ الوحيد، بكلّ سلبياتها، لأزمة وجدل صراعات الهويات المتزاحمة والمتصارعة في مجتمعاتنا، وأن كل هذه الصراعات المتخيلة تتضخم وتزداد كل يوم، بفعل انهيار فكرة الدولة الوطنية وإفشال القائمين عليها تجربتها، وهي التي نحن في أمس الحاجة اليوم لإعادة الاعتبار لها، فالبديل عن إفشال فكرة الدولة الوطنية وتشويهها الدمار والفوضى والاقتتال الذي لن يستثني أحداً، فالجميع ستطاوله نيران إفشال فكرة الدولة الوطنية، حتى المجتمعات التي تعتقد أنها في منأى عن تداعيات إفشال فكرة الدولة الوطنية العربية الحديثة والتآمر عليها، فالبديل دويلات الطوائف وأمراء الحروب والقبائل المتصارعة التي ستشعل بلاد العرب في حروبٍ لا تنتهي.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر