النقاء العرقي والطهارة الدينية


محمد جميح

يلتقي مفهوما: «النقاء العرقي» و«الطهارة الدينية» عند الكثير من الجماعات والميليشيات المتطرفة عرقياً ودينياً، وإذا وجد الإيمان بالنقاء العرقي فهو يقتضي ضمناً الاعتقاد بالطهارة الدينية، حيث يترسخ هذا المفهومان لدى الأيديولوجيات «العرق 1 دينية»، التي تختصر الدين في الجين، وترفع «الأساطير الجينية» إلى مستوى «العقائد الدينية».
 
وفي التاريخ القديم والمعاصر نماذج لا تحصى لجماعات دينية زعمت اجتماع المفهومين فيها، ومن خلال هذا الزعم الذي تذيعه في الأتباع سعت تلك الجماعات إلى تحصيل مكاسب سياسية واقتصادية تحاول الوصول إليها باعتماد أساليب تقوم على تدجين الأتباع وغسل أدمغتهم، معتمدة على تكتيكات أسطرة الأشخاص وتقديس الأعراق، وتسخير المقولات الدينية لصالح الأيديولوجيات العرقية، في تناقض صارخ مع تعاليم معظم الأديان التي تقوم أساساً على أساس المساواة ومنع دعوات التميُّز.
 
في العام 1986 تشكل في أوغندا تنظيم إرهابي مسلح ارتكب أنواع الجرائم المختلفة من اغتصاب وقتل وتجنيد للأطفال واتجار بالبشر وغسيل أموال وتجارة غير مشروعة، وغطى هذا التنظيم كل تلك الجرائم التي ارتكبها بتسمية براقة توحي بارتباطه بالقيم الروحية والأخلاقية التي تشير إليها التسمية التي اتخذها عنواناً له وسمة لمنتسبيه المسيحيين الذين أطلقوا على أنفسهم «جيش الرب».
 
اعتقدت الراهبة أليس لاكوينا التي تمردت على الحكومة الأوغندية حينها، والتي ترجع إليها كثير من أفكار «جيش الرب» أن «الروح القدس» خاطبها وأمرها بالإطاحة بالحكومة نصرة لشعب «أشولي» الذي نُظر إليه على أساس أنه «شعب نقي العرق» تضطهده الحكومة الأوغندية، ثم جاء تأسيس كتائب هذا الجيش على يد جوزيف كوني لتحقيق هذا «الهدف السامي» الذي زعمت أليس لاكوينا أن الروح القدس خاطبها بشأنه.
 
وإذا كانت الراهبة لاكوينا قد زعمت أن «الروح القدس» خاطبها، فإن كوني زعم أنه أن الله يخاطبه، وأنه أمره بإنقاذ «شعب أشولي المقدس» من الاضطهاد، وبناء على ذلك قامت عصابات «جيش الرب» بأعمال إرهابية وصفت بـ«الأبشع» باسم المسيحية و«الروح القدس»، لينتهي كوني مطارداً بعد توجيه اتهامات له بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من طرف محكمة العدل الدولية، وهي التهم التي ذكرت صحيفة الغارديان أنها تتضمن قتل مائة ألف شخص واختطاف ما لا يقل عن ستين ألف طفل للقتال ضمن الجيش المنسوب للرب، ناهيك عن اختطاف فتيات لأغراض جنسية.
 
والملحوظ أن «جيش الرب» جمع بين مفهومي «النقاء العرقي» بتركيزه على نقاء «شعب أشولي» وأنه الشعب الذي اختاره الله لإقامة دولة دينية في أوغندا، حسب «وصايا الإنجيل»، كما أن الأيديولوجيا الدينية لهذا الجيش تقوم على أساس أنه يمثل «إرادة الله» التي خاطب بها قائده «المقدس» جوزيف كوني الملاحق على خلفية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
 
وفي عام 1988 أسس الحاخام الإسرائيلي شلومو هيلبرانس جماعة دينية يهودية ضمن طوائف اليهود الأرثوذكس أو الحريديين الشرقيين، حيث أظهرت هذه الطائفة تشدداً أصولياً ظاهرياً، فنساؤها يغطين الجسد كله ما عد الوجه والكفين، ولباسهن الأسود، والمرأة تعد لتكون ربة بيت، والرجال يقضون وقتهم بين الصلاة وتعليم التوراة، انتظاراً وتمهيداً لقدوم «المسيح المنتظر» الذي لا يجب الاعتراف بأية دولة لليهود قبل مجيئه، حسب معتقدات هذه الجماعة.
 
ومع كل ذلك «الالتزام الظاهري» فإن محاضر الشرطة في بلدان عدة تشير إلى حجم الجرائم التي قام بها قادة وعناصر ينتمون لهذه الطائفة، تلك الجرائم التي تتدرج بين الاتجار بالبشر وتجارة المخدرات وزواج القاصرات والجرائم الجنسية «الجسيمة»، في منحى إجرامي يقترب من طبيعة جرائم «جيش الرب»، مع بعض الفوارق.
مربط الفرس في القصة ـ وكلها مرابط فرس ـ هو أن هذه الطائفة تطلق على نفسها «Leve Tahor» أو «القلب الطاهر» في إشارة إلى حالة من النقاء العرقي الذي يتواكب مع الطهارة الدينية التي يفترضها أصحاب معتقدات «شعب الله المختار» في جماعتهم.
 
كان الحاخام هيلبرانس يعلم أتباعه ـ حسب شهاداتهم ـ أنه «مقدس» وأن طريقه هو الطريق اليهودي الوحيد، وأن بقية الطوائف اليهودية ليست على شيء، وأنها مليئة بالنفاق والكذب، بما في ذلك الطوائف الأرثوذكسية التي ينتمي إليها هيلبرانس وجماعته «القلب الطاهر». ومع كل التهم الموجهة لهذا الحاخام وأفراد من جماعته إلا أنهم يصرون على أنهم هم أصحاب «القلب الطاهر»، و«العرق الأنقى»، و«الطريقة اليهودية الأصح».
 
وإذا ما انتقلنا إلى الألفية الثانية، نلحظ بروز جماعة دينية مشابهة في اليمن تزعَّمها حسين الحوثي، وهي لا تختلف كثيراً في معتقداتها ومنطلقاتها وأهدافها عن النموذجين السابقين اللذين أسسهما كل من جوزيف كومو وشلومو هيلبرانس إلا في تفاصيل بسيطة، لا تلغي حقيقة وحدة الفكرة الأيديولوجية التي قامت عليها المجموعات الثلاث، وهي فكرة «النقاء العرقي» و«الطهارة الدينية» التي تقول بها الجماعات الثلاث.
 
فالفكرة الرئيسية عند بدر الدين الحوثي والد زعيمي: الجماعة الراحل حسين والحالي عبد الملك، أن «سلالاته» «أقدر من غيرهم على القيام بشأن الإمامة»، التي جُعلت فيهم بأمر إلهي، وأنها ليست بالشورى، إذ «لا دخل للشوري فيما أمر الله به»، وأن الله اصطفاهم و«ميزهم» عن غيرهم، وهي أفكار تدور حول المفاهيم ذاتها التي زعمتها جماعتا «جيش الرب» و «القلب الطاهر»، ولذا سميت حركة الحوثيين بأسماء تعكس تلك المفاهيم، مثل «الشباب المؤمن» وهي التسمية السابقة لتلك الجماعة، قبل أن تستقر على التسمية الحالية «أنصار الله» المشابهة لتسمية «جيش الرب».
 
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن قيادات الحوثيين تشيع أن «الله أمر بتولي عبد الملك الحوثي»، وأنه «عَلَم الهدى» وأحد «الأطهار» و«قرين القرآن»، الذي لا يجوز فهم القرآن إلا عن طريقه. وبناء على هذا الزعم بدأ عبد الملك سلسلة حلقات في التفسير، ضمن دروس دينية يحاول من خلالها أن يقول إن القرآن لا يتم تلقيه إلا من خلاله هو على اعتبار أنه هو «عَلَم الهدى» في عصرنا الحالي.
 
ويتبين من مقولات هذه الجماعة أنها الطريقة الدينية الوحيدة الصحيحة، وتسمي قياداتها السلالية «الأطهار» على اعتبار أنهم ينتسبون «عرقياً» إلى «أهل البيت الطاهرين». وهنا نلحظ تعالق مقولات النقاء العرقي والطهارة الدينية التي يريد الحوثيون أن يكرسوها في شخصية زعيمهم الحالي عبد الملك الحوثي الذي يقول أحد شعاراتهم عنه: «اللهم إنا نتولاك ونتولى رسولك، ونتولى الإمام علي، ونتولى من أمرتنا بتوليه: سيدي ومولاي عبد الملك بدر الدين الحوثي»، وهو الشعار الذي جمع مقولتي «النقاء العرقي»، على اعتبار أن الحوثي ينتمي عرقياً للنبي الكريم، إضافة إلى الطهارة الدينية التي أهلت عبد الملك الحوثي لأن يكون مأموراً بطاعته من الله.
 
ومع كل ما يحاول الحوثيون القيام به لإظهار قداسة قيادتهم إلا أن هذه الجماعة وجهت لها تهم بارتكاب جرائم جسيمة تكاد تكون ذاتها الجرائم التي وجهت لجماعة «جيش الرب»، حيث اتهمت تقارير حقوقية وتقارير لجنة خبراء الأمم المتحدة الحوثيين بعمليات تجنيد آلاف الأطفال والقتل والتعذيب، والاغتصاب والانتهاكات الجنسية، ناهيك عن غسيل الأموال والتهريب والفساد وزراعة الألغام والنهب والسطو على الممتلكات العامة والخاصة، دون أن نتحدث عن ملايين النازحين واللاجئين.
 
والواقع أن الكثير من الجماعات المتطرفة التي تحاول إشاعة نقائها العرقي وطهارتها الدينية لا تعدو كونها مجاميع إجرامية، تتدثر بأسماء وعناوين تدور حول السمو الروحي والتطهر الأخلاقي والقداسة الدينية والنقاء العرقي، وما اتكاؤها على تلك المفاهيم إلا محاولة منها للتغطية على الجرائم التي تقوم بها باسم المسيحية واليهودية والإسلام.
 

*نقلاً عن صحيفة القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر