كل سكين يرفع ليقتل انساناً، تقف وراءه كلمة تحرض على الكراهية. الذين يحرضون على الكراهية هم القتلة الحقيقيون. لا ينتشر العنف في أي بلد إلا حينما توفر له الكلمة شروط ذلك الانتشار. في اليمن ظلت الكلمة التي تنشئ الكراهية وتغذيها تغطي مساحة واسعة في الحياة اليومية. 

 

التربية السياسية، التي قامت على احتكار الحقيقة بمعادلها الذي يتلخص في "الوطنية"، ورفض الآخر، هي أصل المشكلة، فقد ضاقت معها مساحة الكلمة الحاملة لفكرة أن الاختلاف والتنوع والنقد، وطريقة إدارتها جميعاً، هي من ضرورات الاستقرار والحياة المشتركة. وبسبب ذلك تحولت السياسة من قيمة مدنية تخاض فيها المعارك بالبرامج، والجدل، والديمقراطية، وإبراز الأفضل، عملاً وسلوكاً، قبل أي شيء آخر، إلى ساحة للعنف والحروب. 

 

ما يحدث اليوم من توظيف صدامي للكلمة، هو تحريض أحمق على المضي في طريق العنف في بلد دمره العنف، والمشكلة أن كل هذا يحدث فيما بين القوى التي استهدفها العنف وشردها، بعد أن انقلب في صورته العنصرية التصفوية على الدولة التي شكلت قاسماً مشتركاً لهذه القوى مجتمعة. 

 

مسألة تثير أكثر من استغراب حينما يكون لدى هذه القوى أكثر من سبب يدعوها إلى إصلاح هذا الحال الشاذ من خلال إعادة بناء الكلمة بمحتوى سياسي وانساني ومدني ونقدي رفيع، ملتزم بقواعد الاختلاف، نابذ للكراهية والتحريض وإدعاء احتكار الوطنية،  ومع ذلك فإنها تذهب إلى إفراغ هذه الاسباب من وجاهتها بدوافع لا تعطي أي دليل على أنها تشعر بالمحنة، أو أنها قد استوعبت الدرس.  

 

لا أحد يستطيع أن يفرض نافذته الوحيدة لرؤية الوطن والتعاطي معه من خلالها، التوافق الوطني الذي استدعته الظروف، حينما اشتدت الأزمة، وصارت تنذر بكوارث أشد وأشمل، هو ما يجب أن يشكل مثل هذه النافذة بالأولويات التي يحتاجها إنقاذ هذا الوطن. 

 

الرؤى والمفاهيم والبرامج الخاصة، يجب أن تنتظم في إطار هذا التوافق لإنجاز المهمة الرئيسية التي وجد من أجله، ولا يجب أن تتحول بإرادة منتسبيها إلى معيار لسحب الوطنية أو منحها للآخر، في ظرف لا يتجسد فيه هذا "الوطن" لدى أي انسان أو جماعة إلا بالمكان الذي يصطف فيه في المعركة.  

 

لم تجرنا الأمور إلى ساحة العنف إلا حينما تحولت هذه المعايير إلى قوة غاشمة لتفرض ارادتها وخياراتها ومفاهيمها ورؤاها على الآخر.  

 

وراء هذا المنتج الفكري للكراهية تقف حالة من التشوه السياسي والثقافي المعجونة بسخام كثيف ناشئ عن نيران التعبئة والتحريض ضد الآخر، والتي غالباً ما يطلق عليها أصحابها مشاعل التنوير، لم يستطع هؤلاء أن يفرقوا بين مشاعل التنوير التي توفر للإنسان فرص أفضل للحياة، وبين نيران الكراهية التي تدمر الحياة. 

 

للأسف لم تعد نيران الكراهية، وزخمها الذي تصعّده الكلمات الحمقاء، تسمح بالبحث في فرص الخروج من هذا المأزق بعد أن دخل البلد سوق التوقعات التي لا تستند، في كثير من الأحيان، على أي معطيات وجيهة. 

 

وكم هي التجارب البشرية التي فوتت فيها الحماقة والكراهية الفرص التي تقدمها الحياة لمعالجة القضايا المعقدة بمنطق متوازن في فهم واستيعاب مصالح الجميع، بعيداً عما يزينه المخيال السياسي الغارق في وهم احتكار الوطنية ومعها الحقيقة. 

 

 

*نقلاً عن صفحة الكاتب على "فيسبوك" 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر