تحولات صورة العدو 


محمد جميح

ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، كتب مخاطباً الغرب والولايات المتحدة، ومشيراً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي: “سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو”. وفي العبارة إشارة إلى أن وجود “العدو” ضروري كضرورة وجود “الصديق” لدى القوى المختلفة، وذلك لاعتبارات كثيرة، منها تماسك الجبهة، والهروب من استحقاقات الداخل إلى الخارج، وتوجيه الطاقات السلبية للشعوب بعيداً عن الحكومات، وكذا لتحفيز روح التحدي والتنافس التي تراكم القوة المطلوبة. 

 

ولأهمية العدو حرصت الأنظمة السياسية: الأيديولوجية والدينية على صناعة عدو بأنماط مختلفة: داخلياً وخارجياً، دينياً وسياسياً، قومياً وأيديولوجياً، بما يتناسب وطبيعة الهدف الكامن وراء هذه الصناعة. ولأن الحرمان من العدو يضر بالمصالح تلجأ الأنظمة إلى صناعة “عدو افتراضي”، أو ما أطلق عليه بيار كونيسا “عدو إعلامي”، تضخمه دوائر معينة، لكي تحوله إلى “عدو حقيقي”، كما فعل الغرب  بالانتقال من “الخطر الأحمر الشيوعي” إلى “الخطر الأخضر الإسلامي”، لتنصرف الأنظار إلى “خطر الخارج الشرقي”، بدلاً من التركيز على “تناقضات الداخل الغربي”، ولإيجاد مبرر أخلاقي لسياسات الغزو والقتل والتدمير التي صاحب تنفيذها نوع من “الطمأنينة الأخلاقية” و”راحة الضمير” التي رافقت تدمير أفغانستان والعراق، وهي المهمة التي ساعدت فكرة “العدو الافتراضي” على جعلها مقدسة، حسب اعتقاد جورج بوش الابن وغيره ممن حارب ذلك العدو الذي استقر أخيراً على صورة “الإرهاب الإسلامي”، مع احتمال تمخض الحرب الغربية – الروسية في أوكرانيا والصراع “البارد” الأمريكي الصيني عن إعادة رسم صورة العدو بشكل مغاير. 

 

وبطبيعة الحال، فإن صناعة العدو ليست حكراً على الغرب، بل إنها صناعة عالمية تختلف من ثقافة أو جغرافيا أو أيديولوجيا إلى أخرى. وفي العالم العربي، وقبل عقود كان العدو بالنسبة للعرب يتمثل في إسرائيل إجمالاً، غير أن هذا العدو لم يكن من قبيل الأعداء الافتراضيين، بل إنه  مارس احتلال الأوطان وشن العدوان، وإن كانت صورة “العدو الإسرائيلي”، وآليات إنتاج هذه الصورة تتفق وتختلف من بلد إلى آخر، حسب المصالح السياسية لهذا النظام العربي أو ذاك، حيث تدرجت تلك الصورة من “العدو الصهيوني” إلى “الكيان الصهيوني” إلى “دويلة إسرائيل”، وصولاً إلى “دولة إسرائيل”، التي تخففت كثيراً اليوم من إيحاءات صورة “العدو الإٍسرائيلي”، إلا لدى بعض الأنظمة التي توظف الصورة القديمة لهذا العدو لأغراض سياسية ودعائية. 

 

وإلى جانب “العدو الإسرائيلي” وجد “العدو الشيوعي” مكانته لدى كثير من العرب والمسلمين، وعلى وجه الخصوص بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان، وبرزت كذلك صورة “العدو الإمبريالي” لدى عدد من الأنظمة العربية التي كانت حينها تدور في فلك الاشتراكية العلمية. 

   

وفي معظم الحالات في تلك الفترة كان العدو في صورته الرسمية والشعبية “خارجياً”، سواء كان عدواً للدين أو للوطن أو للأيديولوجيا، أو لها مجتمعة، وقد أسهم استمرار الصراع العربي الإٍسرائيلي وأدبيات الحرب الباردة في الحفاظ على صورة “العدو الخارجي” (الصهيوني – الشيوعي – الإمبريالي)، حيث لم تتشكل ملامح “العدو الداخلي” بصورة واضحة  – عربياً – إلا في العقود التي أعقبت اندلاع الثورة الإيرانية كما سنلحظ، رغم وجود إشارات متكررة إلى “مؤامرة داخلية” و”أنظمة عميلة” لم ترقَ إلى مستوى إنتاج “العدو الداخلي”، كما هي عليه اليوم. 

 

وعلى الرغم من وجود خلافات وصراعات عربية – عربية خلال عقد الستينيات وما تلاه، إلا أن فكرة “العدو الشقيق” أو “العدو الداخلي” لم تكن موجودة، على اعتبار أن صراعات الأنظمة لم تصل بعد إلى مستوياتها العميقة شعبياً وثقافياً، ثم إن “مركزية القضية الفلسطينية” – إضافة إلى قوة الشعور القومي – حالت إلى حد ما – دون بروز فكرة “العدو الداخلي” في الخطاب السياسي والإعلامي العربي لعقود من الزمن. 

 

بعد ذلك، وفي 1979 اندلعت أحداث الثورة الإيرانية التي كانت لها آثارها الكبيرة على إيران والإقليم، ومع تمخض الثورة عن نظام أيديولوجي طائفي تكرست بشكل كبير في إيران فكرة “العدو الخارجي” الذي كانت ولا تزال له صورتان في المخيال والخطاب السياسي والشعبوي الإيراني، وهتان الصورتان هما صورة العدو السياسي: “صهيوني – أمريكي”، وهو ذاته العدو الخارجي لفترة الستينيات العربية، ثم صورة العدو “الدين – قومي”:  أو “البعثي – الكافر”، ومن صورة هذا العدو الدين – قومي تفرعت صور أخرى لعدو هو بالنسبة لإيران خارجي، لكنه تحول على يد ميليشياتها العربية إلى “عدو داخلي”، بعد أن استحدثت الآلة الإعلامية الإيرانية صورا أخرى كثيرة تُعد تنويعات على نغمة العدو “الدين-قومي”، حيث تكرست صورة العدو “الوهابي التكفيري الداعشي” الذي يعد امتداداً للعدو “الأموي – الناصبي” القديم، إضافة إلى “الأنظمة العربية” التي تُعد في الآلة الدعائية الإيرانية امتداداً للعدو “الصهيو – أمريكي” المعاصر، وهي الأنظمة التي تمثل نمطاً من “العدو الداخلي” بالنسبة لميليشيات إيران في العالم العربي، كما هو الشأن بالنسبة للجماعات المتطرفة في المنطقة. 

 

وبفعل مبدأ “تصدير الثورة” الذي تضمنه الدستور الإيراني عملت طهران – وعلى مدى عقود – على بناء ميليشيات تابعة لها داخل عدد من الدول العربية، ومع استفحال أمر تلك الميليشيات وتفجر الحروب الأهلية العربية تحولت صورة الخارج – شيئاً فشيئاً – من “العدو” إلى “الحليف” أو “الصديق”، واتخذ الداخل بشكل أكبر صورة “العدو” أو “الخصم”، وصار الحديث عن “العدوان السعودي – الإماراتي” عند الإشارة للقوات الحكومية وعن “العدوان الحوثي – الإيراني” عند الإشارة لميليشيات الحوثيين  في اليمن – على سبيل المثال – يطغى على الحديث عن “العدو الإسرائيلي – الأمريكي”، في إشارة لتحول المزاج الرسمي والشعبي عن “العدو الخارجي البعيد” إلى “العدو الداخلي القريب”، والنموذج ذاته موجود في الدول العربية الأخرى التي تضربها الحروب الأهلية، مع فروق شكلية. 

 

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى دور ثورات الربيع العربي في إعادة توجيه خطاب “العدو”، وفي تحولات صورته من الخارج إلى الداخل، الأمر الذي يعني إعادة ضبط إعدادات أجهزة إنتاج صورة “العدو” خلال العقود الأخير، حيث تبدلت العلاقات والتحالفات، واشتبكت الرؤى والأفكار، واصطرعت السياسات والايديولوجيات والمصالح والقيم. 

 

ولا يمكن، أثناء رصد تحولات صورة العدو إغفال أثر عامل مهم وقديم نسبياً، تمثل في “الغزو العراقي للكويت” الذي عمل على اضمحلال ملامح “العدو الخارجي” لصالح “العدو الداخلي” أو “العدو الشقيق”، قبل أن تتكرس صورة “العدو الداخلي” أكثر مع اندلاع الحروب الأهلية العربية المعاصرة التي اشتركت فيها ميليشيات مسلحة إيرانية وحركات متطرفة وأنظمة مختلفة أسهمت صراعاتها في حرف مفهوم “العدو” باتجاه الداخل، وإعادة توجيه مفهوم “الصديق” باتجاه الخارج، في صيرورة مستمرة تتسق وديناميكية الواقع المتحول. 

 

ومع تحولات صورة العدو في الوعي والخطاب عربياً وعالمياً فإن كل صورة للعدو تسود لفترة من الزمن، قبل أن تتوارى لصالح صورة أخرى تفرزها السياسات والأفكار والمصالح والأحداث. ومع أن فكرة العدو متأصلة لدى الشعوب والأنظمة فإن إعادة تشكيل صورة هذا العدو هي العملية التي يتم اللعب عليها حسب المصالح والتوجهات، كما أن المجتمعات والأنظمة الأكثر استقراراً هي تلك التي يعاد فيها إنتاج صورة “العدو الخارجي” على حساب “العدو الداخلي” الذي يعاد إنتاجه بشكل مستمر في المجتمعات والشعوب التي تضربها موجات الحروب الأهلية المدمرة. 

  

* نقلاً عن القدس العربي 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر