شكلت القضية الفلسطينية، على مدى سبعة عقود مضت، بوصلة حقيقية لقياس استقلالية أي نظام عربي من عدمها، من خلال صدق مواقفه تجاه هذه القضية، ومدى استعداده للقيام بواجبه متى ما استدعى منه ذلك. ومثلما مثلت هذه القضية شعاراً لبعض الأنظمة العربية للمزايدة بها، فقد كانت أيضاً ترمومتراً حقيقياً لقياس نسبة صدق أصحاب هذه الشعارات من المؤمنين بها حقاً، لا مزايدةً، أفراداً وأحزاباً وتيارات ودولة أيضاً.
 
وقد كشفت الأحداث أخيراً، التي بدأت بحيّ الشيخ جرّاح في القدس، وصولاً إلى الحرب والمواجهة وانتفاضة الداخل الفلسطيني، كشفت كلها عن حقائق لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها، وفي مقدمة هذه الحقائق مركزية هذا القضية عربياً وإسلامياً وإنسانياً، وليس ذلك على مستوى الخطاب السياسي المستهلك فحسب، بل على مستوياتٍ أعلى قيمياً وأخلاقياً ووجودياً أيضاً، ما يضع الجميع أمام تساؤلات ومسؤوليات حقيقية تجاه ما يجري. ويدفعنا ذلك كله هنا إلى التقاط ملاحظات سريعة بشأن مجمل هذه الحقائق التي ظل الجميع يتهرب منها، أو يعمل بعضهم على تجاوزها بغباء وانكشاف فاضح، باعتقاد أن سبعة عقود كانت طويلة جداً، ما يساعد على تمرير مشاريع انتظر أصحابها كل هذا الوقت لإسقاطها على أرض الواقع.
 
في مقدمة هذه الحقائق أن إسرائيل كانت وستظل كياناً استعمارياً وصنيعة استعمارية غربية، وأن سبعة عقود أثبتت كذبة التهام الأرض وطرد أهلها، وتذويب هوية من بقي منهم، كفيلة بطمس فلسطين، دولةً وهويةً وشعباً، عن الخريطة.
 
ثانياً، إن الإيمان بالقضية وعدالتها هو السلاح الأقوى من كل الأسلحة، وإن سلاح الإيمان بحقك بأرضك وشعبك وإرادتك هو السر في حفظ الشعوب من الذوبان والنسيان ومن ثم الضياع. لذا، ما يصنعه الفلسطينيون اليوم في فلسطين هو قمة الإيمان بعدالة القضية وعدالة الدفاع عنها بكل المواثيق والأعراف والأديان.
 
ثالثاً: كل ما عملت عليه إسرائيل والقوى الداعمة لها على مدى عقود من الاشتغال على فكرة تطبيع الحياة ودمج إسرائيل في محيطها العربي والجغرافي، سقط اليوم إلى الأبد، وانهار مشروع التطبيع تماماً، وسقطت كل الرهانات التي بُنيت على فرضية بن غوريون، موت الكبار ونسيان الصغار. هذا عدا عن انكشاف مشاريع متدثرة بستار السلام والوئام في المنطقة، وهي مشاريع صهيونية حتماً، كالمشروع الذي يشتغل عليه وليّ عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وطاقمه منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، وهو يُسقط هذا المشروع بالضربة القاضية اليوم وإلى غير راجعة.
 
رابعاً: الانهيار الكبير أيضاً لمشروع الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية في المنطقة، التي تقوم على فرضية أن إسرائيل أصبحت أكثر أمناً من أي وقتٍ مضى، هذه الاستراتيجية التي بُذلت لها مليارات الدولارات لترويجها والعمل من أجلها، ها هي تنهار تماماً كتماثيل الرمال، بفعل المعادلة الجديدة التي بدأت بالتشكّل على إثر صواريخ المقاومة الفلسطينية.
 
خامساً: انكشاف كل الشعارات المرفوعة، إن على مستوى الغرب الديمقراطي، وصاحب نظرية حقوق الإنسان، الذي يقف ووقف سابقاً بكل صمت وتأييد للعصابات الصهيونية، وهي تنكل بالشعب العربي الفلسطيني. عدا عن هذا، ظهور الغرب اليوم منظومة موحدة مع دولة الكيان الصهيوني، وهما بالفعل منظومة وحدة واحدة، كما قالها ذات حديث أنور عبد الملك.
 
سادساً: كان لأصحاب شعار المقاومة والممانعة نصيب كبير من هذا الانكشاف والزيف، ففلسطين التي يرفعونها شعاراً للمزايدة والمتاجرة بها، ها هم يصمتون صمت القبور حيال ما ينالها، ويسارع حزب الله إلى التبرؤ من إطلاق صواريخ من الحدود اللبنانية باتجاه إسرائيل، بل ويسقط شاب لبناني بسلاح العدو الإسرائيلي على الحدود، ويبتلع حزب الله صمته، مؤكّداً مقولة أن هذا المحور لتدمير الدولة العربية الوطنية وتجريفها في سورية والعراق واليمن.
 
ثامناً: أثبتت الأحداث أخيراً أن فلسطين كانت وستظل بوصلة الضمير العربي والعالمي الحقيقي، وأن صدقية أي طرفٍ أو نظام أو تيار أو حزب، تجاه قضايا التحرّر والحرية والاستقلال والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، كلها شعارات لا يمكن اختبارها إلا من خلال الموقف الحقيقي مما يجري في فلسطين، فهو وحده ما يقيس حقيقة هذه الشعارات وصدقيتها.
 
 
تاسعاً: ستبقى فلسطين المختبر الحقيقي فعلاً لكل من يدّعي صلة أو موقفاً تجاهها. ولهذا ستسقط أمام هذه القضية كل المؤامرات والخيانات والعمالات جملة واحدة. فلسطينياً، سقطت فكرة السلطة الفلسطينية أخلاقياً وواقعاً، وسقطت معها "أوسلو" وكل ما يتعلق بها، وسقطت كل مترتبات "أوسلو" في محيط فلسطين من الدول والأنظمة التي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام حقيقة أن فلسطين قضية مركزية، لا يمكن تجاوزها بأي ترتيبات خاصة، لا مصرياً ولا أردنياً ولا لبنانياً ولا سورياً، ولا خليجياً أيضاً.
 
عاشراً وختاماً: غدت اليوم فكرة دولة إسرائيل الدولة النموذج في المنطقة، أشبه بفكرة متخيّلة لا يمكن إسقاطها على أرض الواقع، وتبخرت هذه الفكرة التي فقدت في المواجهة الحالية هذه، تماسكها وقوتها وفرادتها أمام صمود المقاوم الفلسطيني وثباته وإصراره واستشهاده في الداخل والخارج، الفلسطيني المؤمن بعدالة قضيته ونبلها وشرفها وقدسيتها.
 

 
*نقلاً عن صحيفة العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر