معركة مأرب وتعاسة الأولويّات


أيمن نبيل

تشهد مأرب، منذ فبراير/ شباط الماضي، هجومًا حوثيًا عنيفًا، يستهدف اجتياحها والسيطرة عليها. وفي هذه الحملة الكبيرة تتركز حاليا جوهر الأزمة التي تمر بها الحرب اليمنيّة في بعديها، الأهلي والإقليمي.
 
على الجهة المقابلة للحركة الحوثية (أو بالأحرى الجهات لو سمح المجاز) يقف كل من: الرئاسة اليمنية، والأحزاب الكبرى، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وقوات طارق صالح في الساحل الغربي، علاوة على العربية السعوديّة. وتحليل مواقف هذه القوى من معركة مأرب الراهنة يوصلنا إلى فهم جزء مهم من معضلة مسار الحرب في اليمن.
 
 
يرى الرئيس عبد ربه منصور هادي الحركة الحوثيّة عدوًا، ولكن أولويته هي البقاء في منصبه. ولهذا حين يكون الخيار بين الإصلاح المؤسساتي اللازم لهزيمة الحوثيين والتراجع أمامهم يختار الخيار الثاني دائمًا، وذلك لأن أي إصلاحٍ في القوات المسلحة وجهاز الدولة يهدّد "مستقبله". مثلًا تحويل الجيش الوطني إلى مؤسسةٍ ذات قيادة مركزيّة، وتفعيل الرقابة المالية داخلها سيجعل الجيش قوةً منظمةً قادرةً في لحظة معينة على الانقلاب أو الضغط عليه أو دعم بديل له. وتفعيل القضاء الإداري وأجهزة الرقابة في جهاز الدولة سيقيّد حريته المنفلتة في التعيينات، وإصدار القرارات التي يستخدمها في كسب الولاءات، وتعضيد شبكات المصالح المحيطة به، على الرغم مما في تلك التعيينات والقرارات من عوار ومخالفات قانونية فاقعة.
 
أما المجلس الانتقالي الجنوبي فينتظر سقوط مأرب بيد الحوثيين بفارغ الصبر، وتعبّر قياداته علنًا عن موقفها هذا. أولويّته فصل الجنوب عن الشمال، وإذا استطاع الحوثيون إسقاط مأرب، ستلفظ الحكومة الشرعية أنفاسها الأخيرة، وهي العقبة الرسمية أمام مشاريع الانفصال، كما أن الوحدة اليمنية لن تنتهي حينها بوصفها واقعًا فحسب، بل بوصفها فكرة كذلك؛ فالحوثية، بعقيدتها التي تجمع الطائفية وأيديولوجيته العرقيّة إلى الجهوية (الشمالية)، ستعطي المجلس الانتقالي بعقيدته الجهوية (الجنوبية) وخطابه الشوفيني شرعية الوجود ووجاهة المطلب اللذَين يفتقدهما منذ البداية. حينها، ومع السلاح الذي يمتلكه من الإمارات، يعتقد الانتقالي أنه قادر على ردع الحوثيين إن لم يرغبوا في التفاهم وحاولوا اجتياح الجنوب مرة أخرى. يرى المجلس في الحوثيين عدوًا، ولكنه ليس الأخطر، كما أنه يرى فيهم عدوًا "مفيدًا"؛ إن أسقطوا مدينة مأرب سيسقط عدوّه الأول (حكومة هادي)، وإن لم يفعلوا فإنهم على الأقل يستنزفونه ويشاغلونه.
 
أما طارق صالح فهو يرفض، منذ بداية هروبه من صنعاء في ديسمبر/ كانون الأول 2017، أن يكون مجرّد قائد قوات عسكرية تحت مظلة حكومة هادي. يريد أن يكون طرفًا سياسيًا في الحرب، مثل الحكومة والحوثيين والمجلس الانتقالي، وليس مصادفة أنه شرع في ترجمة رغبته تلك عمليًا بإنشاء مكتب سياسي لقواته في مارس/ آذار الماضي، مع اشتداد هجمة الحوثيين على مأرب، وكثرة الحديث عن "مشاريع السلام" في اليمن. مشكلة طارق صالح الرئيسة أنه عاجز عن تمثيل أي نزعةٍ تعطيه ثقلًا سياسيًا؛ فالطائفية يحتكرها الحوثيون، والجهوية الجنوبيّة الانفصالية يحتكرها المجلس الانتقالي، وحتى النزعة الجهوية في الغرب يمثلها "الحراك التهامي".
 
أما مقاومة الحوثيين وحدها فهي قد تعطي صاحبها احترام الآخرين، ولكنها لا تعطيه شرعية سياسية، فهي بالأصل موقف أخلاقي – وطني، وليست برنامجًا سياسيًا، وفي حالة طارق صالح، فإنها لا تمنحه الاحترام ولا الشرعية؛ فهو إلى الأمس القريب كان يقاتل مع الحوثيين بكل إخلاص، ويشارك في قصف مدن اليمنيين وقتلهم، ولم يدفعه إلى قتال الحوثيين إلا فشل علي عبد الله صالح في الانقلاب عليهم في نهاية عام 2017. كما أنه "شمالي" يتمركز في الساحل الغربي، التابع لتعز والحُدَيدَة، وبالتالي فهو عاجز عن استثمار المناطقية والعصبويات (الشمالية) التي اعتمد عليها نظام عمه علي عبد الله صالح.
 
 
وعاجز كذلك عن التجييش الجهوي، لأن قواته من جهات اليمن المختلفة وليست من منطقة واحدة، وبالتالي ليس أمامه للاستقرار في هذه المناطق، والحصول على شرعية إلا تمثيل مشاريع تتجاوز الجهوية والطائفية، ولكن تلك المشاريع لها ممثل (على الأقل رسميًا)، وهو حكومة هادي. ولهذا، أقصر طريق سيوصل طارق صالح إلى ما يطمح إليه هو سقوط مأرب بيد الحوثيين؛ بسقوط الحكومة سيتمكن من ملء فراغ المشاريع الذي ستتركه، ويكتسب وجوده شرعية معقولة، عوضًا عن مبرر وجوده البدائي الوحيد الذي يمتلكه الآن، وهو "الثأر" لمقتل عمه، ونكبة أسرته وضياع نفوذه وحكم عائلته، وهذا مبرّر يصلح في نفوس الأفراد، ولكنه في السياسة لا يعني شيئًا يستحق النقاش.
 
لا يختلف موقف الأحزاب كثيرًا عن موقف هادي في الجوهر؛ فهي ترى أن ما لديها الآن هو أفضل ما يمكن أن تحصل عليه، وأي إصلاحٍ مؤسّسي سيهدّد "مكتسباتها"، هذا علاوة على أن ثمّة بين الأحزاب عداوات وإحنًا تفوق حرب الحوثي "أهمية"، خصوصا تلك التي لدى الأحزاب والقوى المختلفة تجاه التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون)، والأخير حليف هادي الأساسي سياسيًا وعسكريًا، وكان ولا يزال يرفض كل طرحٍ يطالبه بتقديم محاربة الحوثي على التحالف مع هادي، والدفع نحو إصلاحاتٍ حكوميةٍ كبرى، والشروع في إجراءات بناء ثقةٍ بينه وبين بقية القوى الحزبية قد تُفقِدُه بعض نفوذه العابر الآن، ولكنها ستنقذه على المدى البعيد، وستدفع نحو بناء بلد موحد ومستقر، تكسب فيه جميع القوى الوطنية.
 
أما السعودية فلديها أولوياتها كذلك؛ منها أنها تريد جيشًا يمنيًا بإمكانه محاربة الحوثيين وهزيمتهم، ولكن بشرط ألا يكون قويًا كفاية، بحيث يشكل تهديدًا مستقبلًا، ولكن المشكلة هنا تكمن في أن الحوثيين يمتلكون سلاح جيشٍ عاتٍ، وتصعب هزيمتهم بدون قواتٍ لا تمتلك سلاحًا ثقيلًا متدفقًا، وتديرها مؤسسات منضبطة. كانت نتيجة هذا الموقف السعودي ما نراه من اعتماد الجيش الوطني المفرط على الطيران السعودي، وهو اعتمادٌ قاتلٌ استراتيجيًا يدفع اليمنيون ثمنه اليوم، وسيدفعون هم والسعودية ثمنه مستقبلًا.
 
في نهاية هذا الاستعراض التحليلي، نصل إلى إحدى خلاصات الحرب اليمنية الأساسية: كل القوى التي تحارب الحركة الحوثية ترى فيها عدوًا وتهديدًا خطيرًا، ولكن محاربتها ليست الأولوية التي يسخر في سبيلها كل شيء آخر؛ ثمّة لدى كل تلك الأطراف أولويات أخرى تسخّر في سبيلها الحرب ضد الحوثيين.
 

 
*نقلاً عن صحيفة العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر