جثة الإمامة في شوارع صنعاء


عصام القيسي

لم تعد لدينا رغبة في الكلام، ولا في التفكير المجرد. نشعر أننا مستنزفون عصبيا وذهنياً. نشعر أن الزمن في قبضة الشيطان، وأننا كنا نطارد خيط دخان. الأمل كلمة مستفزة تعني حاولوا مرة أخرى! حاولوا أن تقولوا ما قلتموه بالأمس ولم يسمعه أحد، أن تفعلوا ما فعلتموه من قبل ولم يثمر شيئاً.. اليأس محرقة تذيب كل شيء، لم يعد هناك حقائق صلبة، العالم كله في حالة سيولة وذوبان، بفعل محرقة اليأس.


 
كانت هذه خواطر سوداوية مرت بذهني بعد سقوط العاصمة صنعاء بيد الحركة الحوثية وتحالف الانقلاب على الشرعية، قبل أن تبدأ عاصفة الحزم. كان الأمر يبدو لكثير من اليمنيين مشهدا فنتازيا خرج من حكايات العجائز قبيل الغروب. من قال إن الواقع أقرب من الخيال؟ ها هو الواقع أمامنا يتفوق على كل صور الخيال الممكنة! ما الذي تستطيع مخيلة عجوز أن تصنعه غير تشخيص الجن وإنطاق الحيوانات العجماء؟! ها هو الواقع يبعث الجثث الميتة وينفخ فيها الروح! ها هي الإمامة تمشي على قدميها في شوارع صنعاء بعد وفاتها بأكثر من أربعة وخمسين عاماً.
 


بالنسبة لنا نحن اليمنيين الجمهوريين، لم يكن تدخل التحالف العربي إلى صف الشرعية التي نؤيدها إلا صورة من صور المكر الإلهي.
الإمامة هي نظام الحكم الذي حكم اليمنيين لفترة من تاريخهم قبل أن تسقط جثة هامدة على يد ثوار 26 سبتمبر 1962. والإمامة هي أسوأ نظام حكم يمكن أن يبتلى به مجتمع من المجتمعات. أسوأ من النازية والفاشية والستالينية ومما قد يخطر ببالك من النظم الحاكمة ذات السمعة السيئة. لأن الأمر لا يتوقف عند كونه نظاماً استبدادياً قمعياً، كما هو حال النظم المذكورة، بل إنها مركب مخيف من الاستبداد والعنصرية والشمولية والخرافة والدغمائية والتخلف، وكل ذلك مغلفاً بغلاف الدين.
 
بل إنه يأخذ كل عنصر من العناصر السابقة إلى أعلى نقطة فيها. فالعنصرية في النظام الإمامي مثلا ليست من تلك الفئة التي عرفت مع النازية، فالعنصرية للإمامية لا تهدف إلى رفع شأن الأمة بكاملة فوق الأمم الأخرى، بل تمزق الأمة الواحدة إلى شرائح طبقية متفاوتة الحقوق والكرامة. والاستبداد في الإمامة ليس كالاستبداد الاستاليني مثلاً، لأنه لا يهدف إلى نقل المجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى. بل يهدف إلى ضمان بقاء الطبقات المحكومة تحت السيطرة. والدين في النظام الإمامي ليس منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية والقانونية التي ترتقي بالفرد والمجتمع وتحفظ استقرارهما، بل هو ذلك الغل الغليظ الذي يربطك بنظام الإمامة.


 
أبعد أكثر من خمسة عقود من الجمهورية تعود الإمامة؟! أبعد ثلاث ثورات كبيرة، وبعد إعادة تحقيق الوحدة الوطنية، وبعد تحولات سياسية كبرى تذهب نضالاتنا وطموحاتنا وأغانينا الوطنية وقصائدنا الحماسية ومكتسباتنا الوطنية أدراج الرياح؟! إنها لفجيعة تنوء بحملها الجبال. 
 
ومع ذلك، وبالرغم من ظلام اليأس الذي خيم علينا في الأيام التالية لسقوط صنعاء بيد الانقلابين، إلا أن بصيصا من النور كان يشع من زاوية بعيدة في النفس لا نعلم مصدره. بصيص نور على شكل تساؤل مع النفس يقول: هل يعقل أن يكون القدر ظالما إلى هذا الحد؟ إلى حد أن يكون جزاء التضحيات الجسيمة والمخلصة التي قدمها اليمنيون الأنقياء في ثورتي 2011 و1962 هو عودة الإمامة نفسها؟! لا، ليس معقولاً، هناك شيء ما تخبئه الأقدار لا نعرف كنهه. لا شيء على مستوى المنطق وعالم الأسباب يمكن أن يبرر بصيص الأمل ذاك، إلا أن للنفس أسرارها وأغوارها. وما هي إلا أسابيع حتى كانت طائرات التحالف تفسر ذلك الشعور.


 
بالنسبة لنا نحن اليمنيين الجمهوريين، لم يكن تدخل التحالف العربي إلى صف الشرعية التي نؤيدها إلا صورة من صور المكر الإلهي. فعلى الرغم من إدراكنا للفجوة الهائلة بين أهدافنا من هذه الحرب وأهداف التحالف، إلا أننا نعول كثيراً على مكر الله للمستضعفين. وقد تبدى هذا المكر الإلهي في صورتين على الأقل حتى الآن، الأولى جمعه بين أخطر مشروعين يهددان النظام الجمهوري ومستقبل اليمن في خندق واحد، أعني أنصار الإمامة وأنصار المخلوع صالح، والأخرى إرساله عدواً لهما قادراً على تحقيق ما يعجز عنه اليمنيون المستضعفون. ومهما تكن نتائج الحرب القائمة بين دول التحالف بقيادة السعودية وبين أذناب إيران في اليمن، فإن النتائج لا شك ستكون أهون من بقاء الإمامة ومركب الانقلاب القبيح.


*مدونات الجزيرة

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر