اليمن وحتمية الكتلة الوطنية


نبيل البكيري

بعد مرور عامين على الانقلاب الذي أدخل اليمن في حربٍ أهلية وإقليمية طاحنة، وما سيخلفه هذا الوضع من دمار لن يتوقف على المباني والجسور والطرقات، وإنما دمار مهول على كل المستويات، وفي مقدمتها وأخطرها تدمير النسيج الوطني والاجتماعي الذي صمد، حتى اللحظة، أمام سعار التهييج الطائفي والمناطقي والجهوي الذي كان يُراد زجّ اليمن نحوه.

 

مجتمعات ما بعد الحروب الأهلية مريضة ومحطمة قطعاً، والوصول إلى تلك المرحلة يستلزم الوقوف كثيراً أمام تجارب عديدة لمجتمعاتٍ عاشت هذه الأوضاع، وما جنته بعدها من تمزّق في نسيجها الاجتماعي والوطني، ما يتطلب جهوداً كبيرة وجبارة من النخب الثقافية والفكرية والسياسية لوضع التصورات والرؤى للحلول والمعالجات الوطنية التي تسهم في تجاوز تلك المرحلة.

 

صحيحٌ أن المعركة مع الانقلاب في اليمن لم تحسم بعد بشكلها النهائي، لكن كل المؤشرات تقول إن سقوط الانقلاب ليس سوى مسألة وقت فقط، ما يتطلب مزيداً من العمل والاستعداد النفسي والذهني من الجميع للتعامل مع مرحلة ما بعد الانقلاب، باعتبار تلك المرحلة ما ستحدّد طبيعة التجربة المستفادة من نتائج هذه الحرب وحجمها، وكيف يمكن إعادة البناء النفسي والاجتماعي للمجتمع الذي ضحى كثيراً خلال هذه الحرب، وعانى كثيراً أيضاً.

 

ومن أولى أوليات مرحلة ما بعد الانقلاب، ستكون مسألة العدالة الانتقالية مدخلاً حقيقياً لمرحلة ما بعد الحرب. لكن هذا يبقى على المستوى النظري البحت والمجرّد، وعلى مدى التهيئة لذلك والقبول به، لكن الأهم هو كيف يمكن الاشتغال على كل المستويات، فيما يتعلق بوجود الكتلة الوطنية التاريخية التي ستضمن السير نحو عدالةٍ انتقاليةٍ حقيقية، بعيداً عن كل الحسابات الماضوية والصراعات الدائرة التي يجب أن يتم تجاوزها بوعي وطني كبير، يتخطّى كل هذه الآلام بمعالجات وطنية كبيرة وحقيقية.

 

وبالتالي، بات الحديث عن كتلةٍ وطنيةٍ تاريخيةٍ في الحالة اليمنية منطق اللحظة وواجبها، بالنظر إلى المقدمات والنتائج التي نراها اليوم على سطح المشهد السياسي، والتي تتجلى في أحط صور الانحطاط السياسي في الفهم الوظيفي للأحزاب السياسية لدورها الوطني في هذه المرحلة، والمنحصرة في دائرة التقاسم والمحاصصة الوظيفية لمؤسسات الدولة التي تمثل كل الأحزاب، في حال فهمها دورها الوطني والسياسي صمام أمان المجتمعات المضطربة والمتصارعة، وعدم انزلاق هذه المجتمعات نحو الصراعات المذهبية والقبائلية.

وكما يقول هنتنغتون في كتابه "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة"، فإن المؤسسات السياسية، 

 

ويقصد بها هنا الأحزاب، تكون من أهم أدوات تجاوز الصراعات الاجتماعية والدينية وغيرها. أما مع انتفاء هذا الصراع، فقد لا تكون هناك حاجة لمثل هذه المؤسسات أو الأحزاب، بمعنى آخر، ففي الحالة اليمنية، مثلت الأحزاب فعلاً حاجز صد أمام تطييف الصراع الراهن، لكن هذا لا يعني أنها قامت بهذه الوظيفة وفقاً لمسؤولية حزبية نابعة من رؤيتها الوطنية، بقدر ما كانت تحصيل حاصل في الاجتماع السياسي اليمني.

 

ولا أريد التشاؤم هنا بالقول إن هذه الأحزاب للأسف انقسمت في رؤيتها للصراع الدائر بين مؤيد للشرعية ومؤيد للانقلاب. ما أريد قوله هنا، أن أهمية ما تقوم به هذه الأحزاب هو أنها تؤطر الصراع في دائرة المصالح السياسية المجرّدة، عدا أننا في اليمن لم نصل بعد إلى مرحلة الأحزاب الوطنية التي تتجاوز مصالحها الحزبية في سبيل المصالح الوطنية العليا، وإنما تظل الحالة الحزبية وعاءً لمصالح جهوية ومناطقية أحياناً، وإن ارتدت لبوس الأيديولوجيات والشعارات الوطنية الكبيرة.

 

من أهم أسباب التأخر الكبير في حسم الصراع في اليمن ضد القوى الانقلابية هو هذا التضارب والتناقض في المواقف داخل بنى هذا الأحزاب، والتي تنبع، في أغلبها، من تصفية حساباتٍ سياسيةٍ مصلحيةٍ حزبيةٍ مجردةٍ عن أي مصلحة وطنية عليا، و لولا هذا المنظور الحزبي الضيق، لما نجح الانقلاب من أساسه أصلاً.

 

ومع ذلك، ظلت هذه الأحزاب تشتغل بذهنية صراعات الماضي، وتحاصص الحاضر وتفخيخ المستقبل. وللأسف، لايزال مثل هذا الاشتغال قائماً، ولم يتم الاستفادة من تجربة الانقلاب المريرة والقاسية التي وقعت هذه الأحزاب في فخها، تحت غواية تصفية الحسابات السياسية. وكانت حالة المحاصصة التي تمضي نحوها بعض الأحزاب وراء كل هذا الارتداد الوطني نحو التخندقات اللاوطنية في لحظة، اليمن أحوج فيها إلى اصطفافٍ وطنيٍّ كبير، يتجاوز عقد الماضي ومصالح اللحظة إلى أفق المستقبل الوطني العام، مستقبل دولة النظام والقانون والحقوق والحريات العامة والخاصة، وهذا ما لا يمكن الوصول إليه، إلا بتجاوز مرحلة الصراعات والحسابات الحزبية الضيقة لصالح المشترك الوطني العام.

 

اليمنيون اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة، تحتم الاشتغال بذهنية الوعي الوطني العام، ذلك الوعي الذي تجسد يوماً بتجربة اللقاء المشترك، بكل سلبياتها، لكنها تظل خطوةً وطنيةً مهمة، على الرغم من كل أخطائها التي رافقتها، وهو ما يحتّم البناء عليها وتجاوز أخطائها، بالانفتاح الكبير على القوى الوطنية الشابة والصاعدة، كالقوى الشبابية التي تم إقصاؤها وإزاحتها من المشهد السياسي في المرحلة السابقة، والتي مثل غيابها ارتداداً عن الثورة الشبابية، ما سهّل للمنقلبين انقلابهم عليها.

 

القصد مما سبق أن على كل الأحزاب والشباب وكل القوى الوطنية، إن أرادت الوصول إلى المستقبل المنشود، مستقبل الدولة والنظام والقانون، لا بد لها من الانطلاق من بوابة الكتلة الوطنية التاريخية التي لا تعني تجاوز الحياة الحزبية والأحزاب والتنوع الموجود، وإنما تعني بناء فضاء وطني عام تسهم وتعزز من خلاله المشتركات الوطنية الكبيرة، والتي في مقدمها الدولة والنظام والقانون والعدالة والحرية، وهذه تتطلب حلف فضول وطني يسعى إلى تحقيقها بعيداً عن الحساسيات والأنانية الضيقة للقوى الحزبية والشبابية، بمختلف توجهاتها.

 

الكتلة التاريخية الوطنية هي تجاوز لكل المراحل السابقة بكل صراعاتها وشعاراتها وأيدلوجياتها، ولن يكن لهذه الكتلة الوطنية من هدف سوى بناء جسور المستقبل، وهذا ما يحتّمه الخطر الوجودي الراهن للدولة والمجتمع اليمني، ذلك الخطر الذي يمثله الانقلاب الطائفي، ويتطلب اصطفافاً وطنياً كبيراً، يضم كل القوى المعارضة للانقلاب، والمؤمنة بالمستقبل الديمقراطي والعيش الوطني المشترك. ولا سبيل إلى ذلك كله إلا من خلال بناء كتلة تاريخية وطنية، تمضي باليمن نحو المستقبل، وتجاوز الماضي والحاضر بمعالجات حقيقية لبناء المستقبل، وفقاً لقواعد موضوعية عادلة وصلبة.

 

*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر