أفكر بالبيت الذي قاله المتنبي


محمود ياسين

ألا ليت شعري هل اقول قصيدة  *** فلا اشتكي فيها ولا أتعتب!!

كلما حاولت كتابة فكرة ما يدخل صوت المتنبي ، الشريد الملاحق بالحزن والنكبات، المتنبي وكأنه يملي علي حزن القرون ويدمغ كل كلمة أكتبها وكل فكرة بشكوى الشاعر وعتبه على الناس والأشياء.

 

كأن الشعر هو في الأصل أن تشكو وتتعب، وكأنما الكلمات هي ذاتها الكلمات التي يتفوه بها حزن العربي وخذلاناته سواء كان في خيمة حقيرة مجاورة لقصر سيف الدولة في القرن الرابع أو في مجلس قريب من كل خيبة وبعيد من أي حلم بخلاص الشاعر الملاحق عبر القرون.

 

اكتب عن حفلات المسيسبي ، واصفر لحنا فرائحيا من صنعاء لعشاق ساحات روما ليلة رأس السنة، هذا عندما أتصرف ككائن حداثي، حتى أنني أتقمص شخصية عازف البيانو الذي نسيته عائلته وهو طفل في إحدى السفن فقامت المحيطات والعابرون بتربيته حتى حفظ نغمات حزنهم ومخاوفهم وراح يعزف لكل مسافر إيقاعا لما يحسه في عرض المحيط.

 

يضع أصابعه على البيانو هامسا : هذا لص بضائع ، ويضرب على الأوتار لحنا قلقا جشعا يترجم انفعالات ذاك اللص، انه بطل فيلم معروف ، هذا العازف على ظهر سفينة ، سفينة احتضنته وقد تخلت عنه العائلة الى جوار بيانو فكبر مع البيانو وتعلما معا كيف يعزفا مشاعر المسافرين.

 

يحدق في عينين واسعتين لمسافرة شهوانية في الخمسينات يشي الكحل المفرط والحدقات الهائلة والساعدين السمينتين بذاك الحضور الشهواني الغادر، يقترح انها قد ذبحت زوجها وفرت مع عشيق حدث السن، ويضرب على البيانو لحنا يضعك في مكان الجريمة شاهدا على الذبح الشبقي والخيانة.

 

لا حيلة للشاعر غير العزف على إيقاعات كل انفعال عابر، الانفعال الذي يتخذ غالبا نغمة رثاء الناس والأشياء ومصائر البشر، يمكنك ادعاء المرح، بوسعك مثلا إعلان مبدأ البهجة والشغف والانخراط في جوقة العزف على التبشير بالسعادة ، لكنك فقط تصفر لحنا لوليمة في قصر سيف الدولة وأنت في خيمتك تشكو وتتعتب، أو تصفر لحنا ليبراليا يشيد ببهجة حياة في مدن أوروبا التي لم تسمع عن مدينتك.

 

 تلك المدن حيث يتأبط البشر مرحا تدربوا عليه منذ طفولتهم ليلة رأس كل سنة، بينما تتأبط انت عبوة القمع التي ولدت معك وبقيتما معا كل ليلة يعزف أحدكما للأخر ما سقط من كل سيمفونية جنائزية.

الآن استعدت نهاية المتنبي الذي كان عليه الموت حتى لا يخون قصيدته، واستعدت المشهد الأخير لعازف البيانو في رحلات سفينة الأطلنطي الذي اكتشف فجأة ان ظلماته لم تعد بحاجة لنغمات.

وبينهما أتمسك بالحياة، اعلن كل ليلة أن لدي في الصباح سنة جديدة، واحتفل بأدواتي من الشاي بالحليب إلى أعقاب السجائر، وعندما اكتب ، يمتزج صوت المتنبي "الشكوى والعتب" بآخر نغمة عزفها فتى المحيط الذي رأى كل إنسان ولم يلحظه أحد.

 

 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر