كان يمكن أن تمر مناسبة المولد النبوي الشريف التي تحل اليوم، مروراً عادياً، يحتفل بها الناس أو لا يحتفلون، لكنها هذه المرة تحولت إلى قضية جدلية في اليمن، بعد المحاولات التي بذلها الحوثيون -التيار الشيعي الأكثر تطرفاً داخل المذهب الزيدي- لتكريسها كأحد مظاهر الاصطفاف الطائفي في بلد لا يحتمل المزيد من هذه الاصطفافات المدمرة.

 

درجت العادة في اليمن طيلة العقود الماضية، أن تنظم وزارة الأوقاف احتفالاً خطابياً بالمناسبة يحضره المسؤولون في الحكومة وعلماء الشريعة، ولم يكن يتعدى الأمر أكثر من ذلك، لكن منذ 2011 وبعد اندلاع ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير، بدأ الحوثيون الذين كان تواجدهم المسلح حينها لا يزال ينحصر في محافظة صعدة في شمال غرب اليمن، بالإيعاز إلى أنصارهم لإحياء المناسبة في صنعاء في شكل تجمع شعبي، في أحد الميادين أو الملاعب الرياضية،  تغلب عليه ظاهرة التعاطي المبالغ فيه لـ"القات" وهو نبات عشبي يحتوي مادة منبه ومنشطة، ويستغرق الحفل مدة ساعة يتخللها خطاب مسجل لزعيم المليشيا.

 

وكان تجمع كهذا يخلو من الروحانية ومن مظاهر الالتزام الديني لدى أنصار الحوثي، وكان المغزى السياسي منه، هو إظهار قوة وحضور هذه الجماعة المسلحة الطائفية. وهي محاولات كانت تتم بالتوازي جهد ترويجي للجماعة تقوم به مجموعة كبيرة من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والناشطين، والمنظمات وبعض التنظيمات السياسية بالإضافة إلى المئات من القيادات العسكرية والأمنية المبثوثة في جسم الدولة العميقة التي أسسها المخلوع صالح بنفس طائفي، وساهم إقصاؤه عن السلطة إثر ثورة شعبية في توجيه إمكانيات الدولة لصالح الجماعة لحوثية المسلحة.

 

كان الجميع يسوق لهذه الجماعة باعتبارها البديل الذي يمكن أن يسد الفراغ، وبالغ الليبراليون واليساريون والقوميون، في تقديم الحوثيين باعتبارهم " القوة الثالثة" خصوصاً أولئك الذين تسكنهم فكرة الاصطفاء السلالي والذين يضمرون نزعة الثأر من القوى السياسية التي تشكل نقيضاً أيديولوجياً في النظر إلى الحوثيين.

 

لم يكن يتصور أحد أن يحدث هذا القدر من الاحتقان حول مناسبة يفترض أن تكرس وحدة الصف بين مكونات الشعب اليمني، بل بين مكونات الأمة، فلا أحد يمكنه أن يحمل موقفاً آخر تجاه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فالاجتهادات حول مشروعية أو عدم مشروعية الاحتفال بالمناسبة لا يحتمل أي تأويل بشأن محبة النبي وتوقيره.

 

لكن الحوثيين يصرون على تكريس المولد النبوي كمناسبة فئوية وسلالية، ولهذا بالغوا في حمل الناس على الاحتفال وتكليفهم فوق طاقتهم للصرف على مظاهر الاحتفال بالمناسبة على الرغم من الحالة الاقتصادية المتردية، مع وجود ملايين اليمنيين الذين لا يستطيعون تأمين قوت يومهم، ومئات الآلاف منهم لم يستلموا مرتباتهم منذ أربعة أشهر.

 

على مدى قرون كان معظم المنتسبين للمذهب الشافعي في اليمن، وهم أغلبية سكان البلاد، يتوزعون على الفرق الصوفية التقليدية: الشاذلية والقادرية، والرفاعية، وغيرها، وكانت هناك طقوس موسمية لا تقتصر على الاحتفال بالمولد النبوي بل تحتشد المجاميع لزيارات سنوية للأضرحة التي يرقد فيها من يعتقدون أنهم أولياء.

 

لكن الظاهرة الصوفية تراجعت إلى حد كبير بعد قيام الثورة اليمنية في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1962، بعد أن تحول اهتمام الناس إلى الأحزاب والحركات السياسية، وإلى النشاط العام.

 

غير أنه منذ نحو عقدين عاد النشاط الصوفي ولكن كظاهرة سياسية بامتياز، فقد تحول كل الذين اضمحلت أحزابهم وتنظيماتهم وخصوصاً اليساريين والقوميين إلى الانخراط في الفرق الصوفية، التي لم تعد كما كانت في السابق إطاراً لممارسات شعائرية مفعمة بالروحانية، بل تحولت إلى أطر تنظيمية مقاومة للتيار السلفي الجارف الذي انتشر في اليمن وتوسع وهيمن على مجال التفكير والاعتقاد وعلى الشعائر.

 

لا أحد ينكر أبداً أن ثمة جفاف قد ضرب الحياة العامة في اليمن بسبب الانتشار الكبير للعقيدة السلفية، لكن ذلك لا يبرر أن تتحول الصوفية إلى كتيبة مقاتلة في جبهة شيعية تعمل اليوم على استئصال مظاهر الحياة وقهر الناس وإذلالهم، وتكريس العبودية للأفراد على حساب عقيدة التوحيد النقية.

 

هذا ما حدث في تعز على وجه الخصوص، فقد تحول رموز الصوفية في تلك المحافظة الشافعية إلى قادة ميدانيين يقاتلون في صفوف المليشيا، ويتبنون الأفكار الشيعية الصارخة فيما يخص عبادة "آل البيت"، ويستبيحون دماء من لا يشاطرهم هذه العقيدة.

 

في حين لم يتوقف الزعماء البارزين للصوفية، في حضرموت أحد أكبر معاقل الصوفية في اليمن، عن تقديم الدعم السياسي والمعنوي للحوثيين، وتسويقهم كتيار سياسي يعتنق العقيدة الزيدية المعتدلة، كما يفعل علي الجفري، على سبيل المثال، بل ويشكل هؤلاء العمود الفقري لرابطة علماء المسلمين التي تمثل المقابل العقائدي لهيئة علماء اليمن.

 

تدير إيران الخراب في اليمن بأدوات عسكرية وطائفية، وقد نقلت النموذج اللبناني بحذافيره للتطبيق في اليمن. ويمكننا اليوم أن نطالع في الفضاء الإليكتروني مواقع تخص ثلاث مجالس عقائدية في اليمن هي: المجلس الإسلامي الزيدي الأعلى، والمجلس الإسلامي الشافعي الأعلى، والمجلس الإسلامي الصوفي الأعلى.

 

وهذه المجالس تعمل تحت نظر ورعاية ودعم حكومة الملالي في طهران، وأجهزتها الاستخبارية، وهذه الأجهزة هي التي تتعمد إلى إظهار مناسبة يفترض أن تكون جامعة، وأعني بها الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إلى مناسبة للنزاع والشقاق والتمييز الطائفي.

 

لذا لا غرابة أن تثير مناسبة المولد النبوي في اليمن كل هذا الجدل، وأن تثير السؤال حول ما إذا كان من اللائق التوسل بخاتم الأنبياء والمرسلين، لفرض مشروع سياسي لا تقبله الإرادة الجامعة لليمنيين، لأنه يصادر حقها في إنتاج الدولة عبر آليات سياسية محددة تستند إلى الإرادة الشعبية ووفق القواعد المعتمدة لدى أمم الأرض.

 

*عربي21

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر