يا عزيزي.. ليسوا مجرّد لصوص


أيمن نبيل

مع انتهاء المونديال في روسيا، وقد برزت فيه فرق صغيرة وطموحة، توالت الكتابات المتحسّرة على أحوال الفرق العربيّة التي خرجت جميعها مبكرًا من البطولة، وذهبت هذه الكتابات في تحليل هذا الفشل المدوي كُل مذهب بالطبع، وأعلى التحليلات صوتًا القول إن السبب الرئيس هو الفساد في الدول العربيّة، وما مؤسسات الرياضة إلا قطاعٌ في الدولة جرى عليه ما جرى على غيره، وبالتالي على من يريد إصلاح أحوال الرياضة أن يصلح الدولة أولًا. لا خلاف طبعًا بشأن مستوى الفساد في الدول العربيّة، لأنه حقيقة وليس وجهة نظر، وإنما الخلاف مع الاستنتاجات منها، أي مع منطق التحليل.
 
يبدو أن ثمّة نزعة مستحكمة عند بعض الكتاب والمثقفين، العرب وغير العرب، لربط كل شيءٍ ببعضه عضويًا (ولهذا يسرد المتتالية الشهيرة "اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا" باطمئنان في كلامه)، ويبدو هذا الربط للوهلة الأولى ذكيًا، لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ فالحذاقة ليست في القول إن كل شيء مرتبط ببعضه (فهذا تجنُّبٌ للتحليل يستعمل لغة تحليليّة دارجة)، بل في تعيين مدى الارتباط بين الظواهر وأنواع الروابط وتمايزات مفاعيلها. وفي موضوع كرة القدم مثلًا، ليست المسألة الفساد فحسب؛ فثمّة أمورٌ أخرى مختلفة.
 
شهد اليمن، في عام 2002، حدثًا كرويًا مدويًا، وهو وصول منتخب الناشئين آنذاك إلى المباراة النهائيّة لكأس أمم آسيا بأداء ممتاز وفنيّات عالية، وفاز عليه منتخب كوريا الجنوبيّة بشق الأنفس. وكان اليمن، كما هو معروف، آنذاك ولا يزال، يحتل قائمة أسوأ دول العالم في مستويات الفساد والفقر والحرمان من الخدمات، كما أن منتخبه الوطني من أتعس منتخبات العالم، على الرغم من المواهب الكبيرة ومكانة كرة القدم في الثقافة الشعبيّة وتاريخ الأندية العريق (مثلًا، نادي التلال في عدن تأسس عام 1905، وكان أول نادٍ في الجزيرة العربيّة، بما فيها الشام والعراق)، وقصة كرة القدم في اليمن، مثل أمور يمنيّة كثيرة، تراجيديّة وذات شجون، لكن هذا موضوع آخر.
 
وللتذكير، فإن كرواتيا التي صعد منتخبها إلى اللقاء النهائي، وفاجأ الجميع بأدائه المميز، تشاركت في عام 2017 مع العربية السعوديّة (خرج فريقها مبكرًا) مركز الفساد نفسه في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافيّة الدولية، وتلتهما في الترتيب الأردن.
 
ما يراد الوصول إليه من المثالين أن المسألة يجب أن تدرس من جوانب أخرى، مثل آليات انتقاء المواهب ومؤسسات التدريب ومستوى استثمار رأس المال في الأندية المحلية ومحفزات الانخراط في النشاط الرياضي للشباب والنهج التربوي السائد إزاء المراهقين وجوانب أخرى، ومن الأخيرة نوع الفساد؛ فلموضوع الفشل العربي أبعاد داخل موضوع الفساد نفسه، مثل أخلاق البيروقراطي الفاسد (وهذا أمر قد يبدو غريبًا) وتصوُّره لنفسه ودوره، لأن فساد البيروقراطي درجاتٌ وأنواع، وليس كل الفاسدين واحدًا، وهذا أمرٌ لا يُدرك بالتأمل النظري في المقام الأول، بل بالتجربة، ومن قاده حظه التعيس إلى أن يقضي أعوامًا في أزقة أفسد بيروقراطيّات الدنيا سيفهم هذه الحقيقة.
 
ثمّة فاسدون تحكمهم حدودٌ أخلاقيّة، بمعنى أنه يستطيع التصالح مع ضميره، وهو يمارس الفساد والإفساد إلى حدٍ معين، لكنه لا يسمح لنفسه بتجاوزه، لأنه لن يستطيع تحمل ألم الإحساس بالذنب.
 
وثمّة بيروقراطيُّون فاسدون، يضعون حدودًا ذاتيّة صارمة لفسادهم، ولكن ليس عن أخلاق؛ فهؤلاء مستعدّون لارتكاب الفظائع، وليس عن خوفٍ من مساءلة، بل عن تصورٍ للذات والدّور، أو عن إيمان بتقاليد معينة تبدو لبعضهم كأنها منظومة قِيَم أخلاقيّة، وهي ليست كذلك، بل أساطير أساسيّة تنتشر عادة بين المشتغلين بكل المهن، يدركون بها ذواتهم ويميزونها بهُويّة فرعيّة مصطنعة (ومهمة). يؤمن هذا النوع من البيروقراطيين مثلًا بأنه تجسيدٌ للدولة وحارس شموخها، ويترتب على هذا شرف المهنة الذي لا يُسمح لفسادٍ معيّن بتلطيخه، ولكن كل فسادٍ آخر دون ذلك مُباح عنده، ويمارسه بكل راحة بال، لأن اعتقاده بتأدية دوره باقتدار يبرّر له بعد ذلك سرقة المال العام.
 
تساعدنا هذه التمييزات على تأمل مصيبتنا بمنظار آخر؛ فمشكلة البيروقراطي الفاسد عندنا، كما ظهر مثلًا في سلوك المسؤولين المصريين عن المنتخب في المونديال، ليست فقط الفساد، بل انعدام الحدود الأخلاقيّة الدنيا في فساده، وانعدام الإيمان ب "عَظَمة" الدولة، ودوره في صونها عبر الكفاءة العالية والإنجاز.
 
استخدام الفساد عنوانا عاما يطمس فروقًا ومسؤوليّات، ويبرّر في النهاية عدم وجود حضيض له، وكأنه سقوط حتمي وأبدي؛ فيبرّر الفاسد معدوم الحدود سلوكه الذاتي بوجود الفساد نفسه، كما يصوّره من يستخدمونه عنوانا عاما. وحينها يبدو الفاسد، لنا وأمام نفسه، كأنه بلا قوّة، وبالتالي بلا مسؤوليّة محدّدة عما يحصل، وهذا غير صحيح؛ فهامش حركته لتحقيق إنجازاتٍ، وفرض خياراتٍ معينةٍ، أوسع من الموظف الشريف، لأن الأخير تحاربه المنظومة كلها، فإما أن تقتلعه أو أن تروّضه، بينما الفاسد تصل معه إلى حلول وسط، لأنه يراعي بعض مصالحها ويشاركها البعض الآخر.
 
أما أهميّة الأمر للمستقبل فتظهر حين التخطيط لإصلاح البيروقراطيّة العربيّة في يومٍ ما؛ فمحاربة الفساد تؤدي إلى توفير الأموال وتجذير المواطنة، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى الكفاءة. وعليه، من الواجب التفكير، ونحن نخطط لمحاربة الفساد، كيف نخلق البيروقراطي ذا الحس الأخلاقي، وإن لم نستطع أو بدا هذا لبعضهم وعظًا مزعجًا، كيف نبني على الأقل البيروقراطي الذي لا يستهين بوظيفته، ويؤمن بأنه حارس الدولة وروحها، وأن إتقانه العمل مسألة شرف مهني.
 
علينا أن نذكّر الفاسدين عندنا بأنهم حضيض الرداءة، وألا نغطي على كوارثهم بتحويل النقاش إلى ضرورة إسقاط النظام القمعي والمفسد حتى ينجح منتخب لكرة القدم؛ فالنجاحات الصغيرة والمَوضعيّة، في الرياضة وغيرها، ممكنة دومًا بشروط أكثر تواضعًا.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر