كم عدد المرات التي سمعنا فيها عن بحث موضوع الهدنة في حلب؛ لتمرير المواد الإغاثية للمحاصرين، أو لنقل الجرحى والمصابين، وإعطاء الفرصة للعمل الإنساني، كذلك الحال في اليمن كم هي المرات التي سمعنا عن هدن يتم إبرامها من حين لآخر للغرض نفسه؟، ولكن في المقابل كم هو حجم الخروقات التي تعترض سبيل تلك الهدن على هشاشتها، ومن هي الأطراف التي تستغل تلك المحطات التي يتوقف فيها الرصاص، إما لإعادة التموضع أو للالتفاف على الطرف الآخر ومحاولة الطعن من الظهر، أو حتى لسرقة مواد الإغاثة؟.

الذي يتأمّل الأنموذجين في المدن السورية وحلب بالتحديد، وفي اليمن، يجد أن هذه الهدن أصبحت جزءا من أدوات الحرب بعد أن أُفرغتْ من مضامينها الإنسانية. فالنظام السوري وروسيا وإيران والفصائل التابعة لهم، حين يريدون تغيير إستراتيجية هجومهم يسارعون لطلب إعلان الهدنة، حتى وإن كانت من جانب واحد، مثلما يحدث الآن من قبل روسيا، حيث يجري الإعلان عن الهدنة من قبل المندوب الأممي، لكن المساعدات ما تلبث أن تقع في أيدي حواجز النظام ومحالفيه، والحال ذاته يحدث في اليمن، حيث ما إن يضيق الخناق على المتمردين إلا ويسارعون لطلب الهدنة، والتي غالبا ما يتم استخدامها بنفس الصورة والآلية التي تحدث هناك في أقصى شمال الإقليم.

وحتى نلملم أجزاء هذه الصورة، يلزم أن نفتش عن القاسم المشترك بين هذين المشهدين، لنجد أن الذهنية العسكرية الإيرانية الحاضرة هنا وهناك، سواء كان هذا الحضور على هيئة قوات عملانية كما هو الحال في سوريا، أو على هيئة قيادات وخبراء عسكريين كما هو الحال في اليمن، هي من يستخدم هذا الأسلوب كصيغة تكتيكية، لأن من يطلق النار على الأطفال، هو آخر من يمكن أن يتحدث أو يهتمّ بالعمل الإنساني أو الإغاثي، وإذا ما كانت هنالك أخلاق حتى للحروب على ضراوتها، تأتي من بينها الهدن الحقيقية التي تستهدف الجانب الإنساني وعلاج المصابين، فإن من اعتاد على المكر وعلى الخديعة لا يمكن أن يعبأ بتلك الأخلاق، والتي يمكن إبراز أنموذجها الحي في اعتراف قوات التحالف مؤخرا بالخطأ في قصف قاعة العزاء، وتحملها المسؤولية على الملأ، والإعلان عن محاسبة المقصرين والمتسببين، وإعلان المملكة تبني علاج المصابين، وتعويض الضحايا، وهي أخلاق الكبار الذين لا يخوضون الحروب لقتل الآخرين بأي ثمن وبأي طريقة، ويتعففون عن استغلال الهدن للالتفاف عليها لإخراجها من مضمونها، وبالتالي هم لا يذهبون إلى الحرب إلا بعد استنفاد كل الخيارات السلمية، وهذا هو الفرق بين من يحارب بكل حمولات الغل والحقد والكراهية، وبروح الانتقام، والرغبة العارمة في إراقة الدم، ومشاعة القتل، ويستخدم كل السبل الشرعية وغير الشرعية للنيل من خصومه، حتى ولو أدّى ذلك لإلحاق الأذى بالمدنيين العزّل، وبين من يحارب مضطرا، ومكرها، وحين يهادن فإنه يرفع بكل أريحية يده عن الزناد حتى وإن لم يفعل خصمه، ليسمح للإنسانية التي لا تعرفها أيديلوجيا الملالي العسكرية بالمرور إلى أقصى غاياتها، لأنه يدرك أن ثمة فارقا كبيرا بين من يقاتل لمبدأ، ومن يقاتل لإزاحة الآخر واستئصال حقه في الوجود.

 

اليوم السعودية

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر