الهجرة العكسية.. يمنيون يركبون سفن الموت إلى الصومال ويعودون بـ"خفي حنين" (تقرير خاص)

 "أثناء ما كانت الأمواج تقتحم الباخرة الخشبية المتهالكة لم تكن فكرة الموت ترعبني، أكثر من فقدان أسرتي لي وبقائهم مشردين بلا مسكن أو غذاء خاصة وأن جميعهم أطفال، وأنا عائلهم الوحيد"... بهذه العبارة بدأ وليد البجل (40 عاما)، يروي قصته التراجيدية أثناء تجربته بالهجرة من اليمن إلى الصومال، بحثا عن فرصة عمل..
 
كان البجل الذي ينحدر من محافظة عمران شمالي اليمن -وهو موظف في وزارة العدل-  من ضمن الذين أجبرتهم الحرب على النزوح من صنعاء، وتضاعفت معاناته وأسرته المكونة من 6 أفراد أشخاص، إثر توقف صرف المرتبات الحكومية، في اغسطس 2016.
 
تشير تقديرات منظمة الهجرة الدولية إلى أن عدد النازحين داخليا في اليمن يبلغ 4.3 مليون شخص، معظمهم نساء وأطفال، ويعيشون ظروفا قاسية للغاية.
 
بداية المعاناة
 
يقول وليد لـ"يمن شباب نت"، إنه قبل هجرته إلى الصومال كان هناك هجرة أولى ولكنها داخلية – يقصد النزوح – بدأت مع بداية الحرب ولم تنته حتى الآن. كنت – كما غالبية النازحين – يعتقدون بداية الحرب أن معاناتنا ستنتهي خلال شهور أو أعوام قليلة، لكن ذلك لم يحدث".
 
ترك وليد البجل شقته، المستأجرة، في العاصمة صنعاء شمال مفاتيحها لمالكها، واتجه صحبة أسرته إلى مسقط رأسه في  ريف محافظة عمران على أمل أن تهدأ الأوضاع ويعود سريعا إلى صنعاء.
 
ولأن العيش في الريف كان صعبا، غادر البجل وأسرته عمران، وتنقل من حينها بين 4 محافظات، إما بحثا عن مصدر رزق أو فرارا من مواجهات مسلحة بين المتصارعين ليستقر أخيرا في مديرية ارحب، تبعد عن العاصمة صنعاء 30 كم.
 
وهناك استقر وليد واسرته، في منزل شعبي قديم مكون من غرفتين بعيدا عن الخدمات الصحية والتعليمية لتزداد معاناة عائلته المكونة من 5 أطفال 3 إناث 2 ذكور وزوجته و تتفاقم يوم بعد آخر.
 
حيث لجأ للعمل بالأجر اليومي، بعائد مادي ضئيل، لا يكفي لتلبية متطلبات أسرته الأساسية، وهو ما دفعه للاتصال ببعض أصدقائه لمساعدته في البحث عن فرصة عمل، وفق حديثه.
 
أحد الذين تواصل معهم البجل، كان يعمل في تجارة أعلاف الدواجن، لكن الأخير أغلق أمامه باب الأمل الذي كان قد أوهم نفسه بإمكانية ولوجه، حيث أكد له أنه يفكر جديا بإيقاف العمل تماما، كونه يدفع أموالا طائلة في جمارك الأعلاف وأصبحت الخسائر والديون تتراكم عليه.
 
لمعت فكرة الهجرة الى الصومال أمام عيني البجل، وبدأ يفكر بها جديا. يقول البجل، "كنت أرى فكرة الهجرة إلى الصومال، فرصتي الأخيرة لإنقاذ اسرتي من الضياع والجوع".
 
عرض وليد الفكرة على بعض اصدقاءه، والذين بدورهم وافقوا على مرافقته، واتجهوا صوب مدينة عدن جنوبي البلاد، والتي شكلت نقطة انطلاقهم إلى المجهول.
 
من عدن إلى بربرة
 
أواخر 2022، وصل وليد البجل ورفاقه إلى عدن، وكان يعتقد حينها أنه أوفر حظا من بعض رفاقه لامتلاكه جواز سفر، ولأنه كذلك، تمكن من ترتيب السفر عبر رحلة تنطلق من ميناء عدن، وجهتها ميناء بربره في إقليم أرض الصومال.
 
ما إن اقترب من الباخرة، والقى نظرة، فاحصة على هيكلها الخارجي، دب في نفسه شيء من الخوف، فالسفينة تبدو للوهلة الأولى قديمة جدا، وتتكون من دورين، مصنوعة من الخشب، وهي مخصصة لشحن المواشي، وليس لنقل البشر.
 
قال وليد في نفسه وهو يخطو باتجاهها ومعه عدد من الشبان الذين يربطهم ذات الهدف "ليس مهما شكلها، الأهم أن نصل إلى وجهتنا ونحصل على فرصة عمل. ابحرت الباخرة صوب ميناء بربرة وكانت تجربتهم الأولى في الترحال عبر البحار، وكادت أن تكون الأخيرة بعد أن ترصدتهم الأمواج العاتية وكادت أن تودي بهم إلى الموت غرقا".
 
رحلة مرعبة
 
يسرد وليد تفاصيل الرحلة المرعبة،: "خلال الابحار وزع علينا أحد البحارة جواكت نجاة وبعد مرور ساعات قليلة أدركنا ان هذه الباخرة قد عفى عليها الزمن فابحارها بطيء وأصوات محركها المرتفع يبعث على الخوف وماهي إلا لحظات والامواج تقتحمها من كل جانب".
 
يواصل وليد حديثه بصوت خافت وقد انكمش على جسده، وكأنه ما يزال يعيش تلك اللحظات الرهيبة : "رأينا عمال الباخرة يقومون بسحب طرابيل كبيرة ورفعها على البضاعة المحملة في مئات الصناديق والتي كانت عبارة عن بصل أحمر وبضائع أخرى نجهل اصنافها والتي تتجاوز عشرات الاطنان".
 
وأضاف،"بعد تغطيتها بالكامل تم إجبارنا على النزول لأسفل الباخرة لسحب مواطير مياه كبيرة إلى وسط الباخرة وتفاجأنا بدخول المياه من الأسفل وهذه المواطير مهمتها اخراجها من جديد للبحر عبر أنابيب ثلاثة قطر كل واحد فيها 4 انش".
 
وتابع البجل: "اصابنا الهلع عند مشاهدة ذلك فكيف لهذه المواطير أن تجابه التدفق الشرس والشديد لمياه البحر، وكانت المياه تتدفق إلى السفينة من أسفلها وأعلاها. بدأت إحدى المواطير بالعمل وحينها أمرنا أحد البحارة بالصعود إلى الدور الثاني من الباخرة وهناك شاهدنا العديد منهم يبتهلون ويدعون الله بأن تنجو بهم الباخرة من هذا الوضع الكارثي".
 
لحظات الرعب تلك كانت في اليوم الأول من الرحلة، ومع شروق شمس اليوم التالي بدا أن البحر أصبح أليفا وهادئا يحتضن الباخرة بحب وود عظيم لكن هذا الهدوء كان يخفي خلفه كارثة جديدة عندما تعطل محرك الباخرة واضطروا على المكوث نصف يوم وسط البحر وهي فترة إصلاحه من قبل ميكانيكي مرافق للباخرة.
 
يشير البجل إلى أنه وبعد أكثر من 70 ساعة إبحار وتوقف في البحر، وصلت الباخرة إلى ميناء بربرة الصومالي، وهناك بدأ فصل جديد من رواية العذاب.
 
في أرض الصومال
 
بحسب وليد، أوقفت السلطات الصومالية، الناجين من رحلة الموت، في ميناء بربرة، ولم تسمح لهم الدخول إلا بعد عشرة ايام. كان لوليد ورفاقه هدف محدد وهو البحث عن فرصة عمل، لكن وجهتهم كانت مختلفة، بل إنها غير معلومة.

وقال البجل في إطار حديثه لـ"يمن شباب نت"، أنه عقب سماح سلطات الميناء لهم بدخول الأراضي الصومالية، اتجهوا للبحث عن فرص عمل بمناطق ومهن مختلفة. تفرق الاصدقاء بين المقاولين والتجار للعمل، وانا وجدت عملا بصعوبة لكن بأجر زهيد لا يتجاوز200 دولار بالشهر .


 
بعد بحث شاق، حصل وليد البجل على فرصة عمل في قطاع المقاولات. عمل لدى مقاول بناء منازل، يحمل جنسية أجنبية. لم يكن هذا المردود المالي يفي بالغرض، فلا هو يغطي احتياجاته في بلد المهجر، ولا يسمح بإرسال جزء منه لأسرته التي تنتظر بأمل وشوق – بفارغ الصبر – نتائج الهجرة.
 
كان وليد البجل قد عقد العزم على العودة إلى اليمن، واثناء ذلك، عرف تطورا جديدا بشأن رفقاء الهجرة، جعله يندب حظه. تذكّر الشعور الذي كان قد رافقه في عدن بأنه أفضل حالا من رفاقه بامتلاكه جواز سفر، وتأكد له أن ذات السبب – جواز السفر – كان سبب شعوره بالعجز واليأس.
 
يوضح وليد البجل الموقف وحظه السيء بالقول "عرفت من أحد الرفقاء أن بعض من كانوا معي في باخرة القدوم، قد غادروا الصومال إلى بلدان أخرى حيث تم اعتمادهم كلاجئين، والغريب انهم لا يمتلكون جوازات سفر"، وحينها داهمت الحسرة وليد على عدم مرافقته لهم وقرر المضي في العودة لبلاده
 
رعب الموت غرقا
 
وبعد ثلاثة أشهر في الصومال، حزم وليد حقائب العودة، وطلب من أحد القوارب المتجهة لليمن أن يقله معه، لكن الأخير رفض طلبه، كون القارب لمهربي سجائر ولا يستطيعون تحمل مسؤولية أحد. وانتظر أكثر من أسبوع حتى وجد قاربا آخر هو أيضا لمهرب لكنه وافق على نقله معهم.
 
بحسب وليد، كان القارب محملا بثلاث حاويات سجائر مختلفة وكلها مهربة وبعد يومين وصل المركب إلى قرابة ساحل رأس العارة بمحافظة لحج.
 
على بعد 5 كم من الساحل، أنزل المهربون البضائع عبر زوارق صغيرة، بعد 3 ساعات تفريغ، وهناك وفي ذات المكان، أُجبر وليد وآخرون على النزول من المركب وصعود زورق صغير للوصول إلى اليابسة.
 
لم يبال البجل، فالأهم أنه يصل، حيث صعد الزورق، لكن بعد وقت قصير من تحركه تعطل محركه نتيجة الحمولة الزائدة من البضائع المهربة، موضحا أنه كاد أن يموت غرقا بعدما تعطل الزورق وسط البحر، وأضطر حينها لخوض مغامرة اجبارية جديدة، للوصول إلى شط الساحل، حيث قطع مسافة 2 كم سباحة، ليصل أخيرا إلى ساحل رأس العارة.
 
رغم عناء رحلة العودة، إلا أن البجل تأكد له أنه كان محظوظا أو حد تعبيره "كان ربي يحبني"، وذلك بعد معرفته أن القارب الذي كان قد رفض أن يقله معه للعودة إلى اليمن، تعرض لهجوم في البحر، من قبل مسلحين، يعتقد انهم قراصنة، وكان يحمل عددا من المهاجرين، حيث قتل وأصيب عدد منهم خلال الهجوم.
 
معاناة واستغلال
 
معاناة الهجرة إلى الصومال، لم يعشها وليد وحده او حتى مع عشرات آخرين فقط، فهناك المئات الذين عاشوا ذات التجربة، وعاد الكثير منهم دون منحهم أي صفة لجوء، او حتى حصولهم على أية مساعدات إنسانية سواء من السلطات الصومالية او من المنظمات.
 
ووفق البجل، يعاني اليمنيون في الصومال من امتهان كبير لحقوقهم حيث يعملون بأجور زهيدة للغاية وهي لا تتجاوز 200 دولار في الشهر، وسط أجواء حارة جدا، تسببت لهم بأمراض عديدة، بينها حميات فيروسية وملاريا وغيرها.


 
وفي هذا السياق، يقول رئيس منظمة مكافحة الاتجار بالبشر علي الجلعي، لـ"يمن شباب نت"، إن الصراعات والحروب تبرز ظواهر غريبة منها اللجوء العكسي. ففي حين يعاني اليمن من تدفق المهاجرين واللاجئين غير الشرعيين خصوصا الأفارقة، فإن العكس بات يحدث، حيث اللجوء العكسي من اليمن إلى القرن الإفريقي.
 
وأضاف العجلي، أنه في كل الأحوال، فإن المهاجرين غير الشرعيين بما فيهم اليمنيين، يتعرضون لامتهان واستغلال عصابات التهريب والاتجار بالبشر.
 
وأشار إلى أنه من المفترض على المفوضية السامية لشئون اللاجئين القيام بواجباتها تجاة كل اللاجئين وفقا للاتفاقيات الدولية الخاصة بحكاية اللاجئين اليمنيين وغير اليمنيين والتعامل مع اللجوء العكسي بنفس الآلية.
 
لا توجد إحصائيات دقيقة، -سواء كانت رسمية من الحكومة او المنظمات- حول عدد اللاجئين اليمنيين في الصومال والقرن الإفريقي عموما، لكن بعض التقارير تقول إن القران الافريقي بما فيه الصومال يستضيف عشرات الآلاف من اليمنيين.
 
وتشير أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى أن الصومال تستضيف حوالي 31,000 لاجئ وطالب لجوء مسجلين من اليمن. كما استضافت جيبوتي أكثر من 13 ألف لاجئ يمني ايضا، فيما تستضيف إثيوبيا، وفقا لذات المصدر، أكثر من 900,000 لاجئ من بلدان بما في ذلك جنوب السودان والصومال والسودان وإريتريا واليمن.
 
فيما ذكرت وسائل إعلام صومالية بينها صحيفة القرن اليومية، أن أعداد اللاجئين اليمنيين في الصومال تبلغ قرابة الـ 10 آلاف شخص، يعمل العديد منهم في المطاعم وعيادات الأسنان وحتى في مجال العقارات.
 
ويعتبر اليمن الدولة الوحيدة في شبه الجزيرة العربية التي وقعت على اتفاقية اللجوء لعام 1951م وبروتوكول عام 1967م التابع لها. ورغم ذلك، لم تلفت الهجرة العكسية أو ما يسمى اللجوء العكسي، انتباه المنظمات الدولية والحكومات اليمنية والمجتمع المدني حتى الآن وتعتبر هذه القصة من اوائل القصص للمهاجرين اليمنيين للصومال .
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر