الثورة الأخلاقية التي نحتاج


د. منصف المرزوقي

مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليوم، تشبه بنايات مترنحة ملآى بالشقوق ومهدد بالانهيار، وفي كل الحالات عاجزة عن الإيفاء بحاجيات السكان.لماذا؟ لأنها مبنية على مستنقع.

 

طيلة سنوات تدريسي للطب كنت أردّد للطلبة أنه يمكن ضخ كل الموارد والخبرات في النظام الصحي، لكن إذا غاب الضمير المهني عند الطبيب والاحترام عند الممرض والانضباط عند المريض، تصدع النظام ثم انهار.

 

جل أزمات أنظمتنا من هذا النمط، أي أنها ترمي بجذورها داخل أزمة الأزمات: الأزمة الأخلاقية.

إن خطورة هذه الأخيرة تتطلب تجديد رؤيتنا للموضوع، وإلا فإن الخطاب "الأخلاقوي" لن يكون إلا واحدا من أعراضها؛ مما يعني ضرورة الإعراض عن الخطاب المبتذل المتباكي على انهيار الأخلاق في مجتمعنا، المردّد لبيت شوقي الشهير (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيَت..فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)، بمناسبة ودون مناسبة، وكأنه وُجد زمان أو مكان تحققت فيه مكارم الأخلاق التي بُعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ليتمّمها.

 

اقرؤوا نصوص الجاحظ عن مجتمع عصره، ومسرحيات موليار عن المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر، وروايات دستويفسكي عن المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر وسترون أن "ربّها واحد".

 

(1)

أول ما نبدأ به ضرورة ضبط المفهوم.

لنأخذ قائمة القيم المشجَّع عليها بالتربية والوعظ الديني داخل المجتمع، وبغض النظر عن الالتزام بها أو النفاق في استعمالها؛ هي واحدة عند كل البشر حتى وإن رتّبتها الثقافات بصفة مختلفة. هي قارة عبر الزمان ينقلها جيل إلى جيل لأنها زبدة تجربة الأجيال السابقة وخبرتها بالحياة. إنها توصية المجرّبين للأحداث ولسان الحال يقول: انتبهوا، جرّبنا الكذب فإذا بحبله قصير.. حفرنا جبّا لإخوتنا فوقعنا فيه.. الخ.

 

القيم هي كنز التجربة البشرية التي تنقل أحسن التوصيات لأحسن حياة ممكنة، فرديا وجماعيا. وهي تنبيه إلى أن عدم احترامها يؤدّي أحيانا إلى منفعة عاجلة، ودائما إلى مضرّة آجلة.

 

يمكننا الآن تعريف القيم بأنها مجموع المواقف والتصرفات التي أثبتت تجربة الإنسان عبر العصور أنها وحدها التي تحقّق -رغم كلفتها الآنية- منفعة الفرد ومنفعة المجتمع؛ وعندما تتعارض المصلحتان فإن الخيار الأنسب للتقليل من الأضرار للمجتمع ككل، هو الذي يضع منفعة المجموعة قبل منفعة الفرد. إنه الأمر الذي جعل كل الشعوب تضع التضحية على رأس قائمة القيم.

 (2)

السؤال، ما سبب صلابة وتواتر التصرفات غير الأخلاقية عبر الزمان والمكان، رغم قرون من الوعظ، ورغم ضررها الواضح بالأفراد والمجموعات؟

 

في ردّه على هذا السؤال المحيّر، يعتبر عالم الاجتماع الإيطالي سيبولا، أن السرّ يكمن في طبيعة البشر؛ فهو يدعو لتصنيفهم لا حسب العرق والدين واللغة، وإنما حسب نتيجة أفعالهم، لأنها الوحيدة التي لها تأثير علينا وعلى العالم.

 

من هذا المنظار يقسم الرجل الجنس البشري إلى أربعة "أعراق":

-الذين تنتج أفعالهم المنفعة لهم ولغيرهم وهم العقلاء.

-الذين تنتج أفعالهم المنفعة لهم والمضرة لغيرهم وهم الأشرار.

-الذين تنتج أفعالهم المضرة لأنفسهم والمنفعة لغيرهم وهم الأغبياء.

-الذين تنتج أفعالهم المضرة لهم ولغيرهم وهم الحمقى.

 

الخبر السيّئ أن نسبة الحمقى والأشرار والأغبياء الذين سيتصرفون دوما بصفة غير أخلاقية، نفسها بين النساء والرجال، بين المتحضرين والمتوحشين، بين الأميين والعلماء، بين الرعايا والحكام.

الخبر الأسوأ أن لا شيء سيتغيّر في مستقبلنا "الزاهر" والتركيبة قارة لا تقدر عليها تربية أو دين أو سياسة.

 

لست بمثل تشاؤم صاحبنا لأن هذه "الأعراق" ليست ظواهر قارة مثل السود والبيض أو الذكور والإناث، وإنما متحركة قابلة للتغيير.

 

كل مربٍّ يعرف أن الطفل، خاصة بين السنة الثانية والخامسة، كائن أناني نرجسي متسلط، يريد الشيء حالا ويمارس على والديه كل أصناف الضغط والابتزاز، وهو عادة لا يقيم أي وزن للآخر. حدّث ولا حرج عن عنفه الغريزي.

 

دورنا كآباء وكأمهات ترويض المتوحش الصغير، ليتعلّم التأدب والاحترام والصبر والتقاسم مع الآخرين. كل ما نفعله، بالقدوة أساسا وبالنصح، وأحيانا بشيء من الضرب الخفيف، هو إجباره على أن ينضج لينصهر في المجتمع وينفعه وينتفع به.

 

تتواصل عملية الإنضاج هذه، والطفل ثم المراهق فالشاب فالكهل والشيخ، يعمّق بمرّ السنين تجربته فتزداد تصرفاته فعالية في نفع الناس ونفع نفسه.

 

المشكلة تفاوت عقارب الزمن البيولوجي التي لا تتوقف، وعقارب ساعة النضج النفسي التي تتوقف عند البعض، فنبقى نعاني من مراهقين في الخمسين وأطفال في الستين، أي من أشخاص حافظوا رغم تقدمهم في العمر على أنانية الطفل ونرجسيته وقابليته للكذب والعنف.. الخ.

 

سواء صحّت نظرية سيبولا أو نظريتي أو جانبتا الصواب معا، فالنتيجة دوما واحدة، أي وجود عدد من الأفراد يرتكبون باستمرار تصرفات تضرّ بهم وبغيرهم. كيف تتعامل المجتمعات مع هذه الظاهرة القارّة والمتواجدة بنسب مختلفة حسب الزمان والمكان؟

 

(3)

ظاهرة أثارت استغرابي لمّا عدت لتونس بعد نهاية دراستي بفرنسا منتصف السبعينات، هي الطريقة التي كان-ولا يزال- التونسيون يتحايلون بها على الصفّ (الطابور).

 

حدّث ولا حرج عن طريقتهم في العمل، سواء في الإدارة أو في المستشفيات أو عندما تُبتلَى بمصيبة بناء منزل فيتلفون أعصابك.

 

هؤلاء الناس هم أنفسهم الذين كنت أراهم يلتزمون بالصفّ في فرنسا ويعملون بجدية وانتظام وإخلاص في المستشفيات الفرنسية، وكنت واحدا منهم.

 

لو كان التونسي يحمل جينات الكسل والغشّ وعدم الانضباط لتصرّف في المجتمع الفرنسي كما يتصرّف في المجتمع التونسي. بما أن الأمر ليس كذلك فالخلل ليس في الشخص.. ما السبب إذن؟ طبعا وجود جوّ ثقافي صارم يمنع ويعاقب كل الإخلالات داخل الفضاء العام. لا أحد سيلتفت إلى من يحتال على أمه لكن من يحتال على إدارة الضرائب سيلقى الكثير من المشاكل حتى ولو كان ابن عمّ خالة المسؤول الكبير.

 

(4)

هنا تتضح ضرورة التفريق الجذري بين الفضاء العام والفضاء الخاص الذي نمارس فيه مواقفنا وتصرفاتنا، وإلا سنواصل سوء فهم تخلفنا الأخلاقي.

 

من المرجّح أنك لو وضعت عيّنة ممثلة من العرب والغربيين والأفارقة والآسيويين وتفحصت تصرفاتهم في الفضاء الخاص الضيق أي الذي لا يتجاوز حدود العائلة والأصدقاء، لما وجدت اختلافات جذرية في نسبة التصرفات الأخلاقية وغير الأخلاقية. ستجد تقريبا عند الفرنسيين والتونسيين نفس نسبة الكذابين والصادقين، والنمّامين وغير النمامين، والجدّيين وغير الجدّيين.. الخ.

 

أخرج الآن للفضاء العام حيث التعامل مع آلاف الأغراب، لن تختفي بالضرورة التصرفات الطفولية لكنها ستواجه بسياسات مجتمعية مختلفة ومتباينة الفعالية في تطويق وردع أخطر الأعمال المضرّة بالمجتمع ككل.

 

السؤال ما هي هذه الأعمال الخطرة التي تضرب في الصميم المصلحة العامة؟ لا أسهل من الرد وهو صحيح في كل المجتمعات: كل الأفعال المتعلقة من قريب وبعيد بالفساد.

 

ما لا يقدّره البعض أن هذه الجريمة لا تتعلّق بكمّ الأموال المسروقة للشعب، فهي مهما عظمت قطرة في بحر. إن خطورة الفساد هي في ضربه قيم العمل والنزاهة والمساواة والصدق، حيث يصبح الرأي السائد في المجتمع مقولة أحدهم: "إن أردت أن تسدّ الرمق فاعمل، أما إن أردت الثروة، فابحث عن طريق آخر" أي طريق الفساد.

 

انظر الآن تبعات الفساد وعلاقته بالاستبداد الذي دمّر ولا يزال يدمر الحقوق والحريات. أول من يعرف حجم فساده هو الحاكم الفاسد، لا بدّ له إذن من التستّر عليه بمنع النقد وخنق كل الأصوات الحرّة، بعد هذا يجب اللجوء للتعذيب لإرهاب أصحابها، ثم لا بدّ من توريط أكبر عدد ممكن في الفساد ليكونوا شركاء في الدفاع عن النظام، لا بدّ من التأكّد من عدم المتابعة، فتأتي سياسة التحكم في القضاء وإفساده. مارس الذين حكمونا طيلة فترة ما بعد الاستقلال وفي وضح النهار، النرجسية والشخصانية والمحسوبية والجهوية والكذب المفضوح فعمموا هذه التصرفات التي انتشرت في الجسم الاجتماعي انتشار خلايا السرطان في جسم المريض. الحقيقة أن الأطباء الذين كنا ننتظر منهم الشفاء هم الذين مارسوا ونشروا أخطر أمراض المجتمع.

 

ها أنت أمام مجتمع مصاب بسرطان اجتماعي بدأ ورما في الرأس ثم انتشرت خلاياه في باقي الجسم.

انظر الآن إلى الصراع العربي الإسرائيلي من هذه الزاوية.

 

لا جدال في أن العنصريين في إسرائيل يتصرفون بطريقة غير أخلاقية مع أهلنا، لكن حفيظتنا بخصوص كل المظالم والانتهاكات يجب أن لا تحجب عنّا أن إسرائيل ليست متفوقة علينا عسكريا واقتصاديا وعلميا بالصدفة وإنما تفوقها الأخلاقي أحد أهمّ أسباب تفوقها علينا في هذه المجالات.

 

ما الدليل؟ يوجد اليوم في سجون إسرائيل رئيس وزراء سابق، لتورطه في قضية فساد حقيقية لا مفتعلة في إطار صراع سياسي ناهيك عن رئيس جمهورية سابق مورّط في قضية تحرّش جنسي. الأمر ليس حدثا عارضا، إنه مؤشّر على وجود مساواة أمام القانون بين المواطنين (اليهود طبعا) إنه مؤشر على حرب ضروس ضد الفساد، مما يسمح للعمل والنزاهة بالقيام بالدور البناء المطلوب منهما.

 

لهذا استطاعت دولة صغيرة أن تهزم كل دولنا المريضة، ولهذا لن تقوم لنا قائمة في أي ميدان إن لم نقض على ورم الفساد قبل أن يجهز المرض على ما بقي من جسم أمتنا العليل.

 

والآن كيف يقاوم الفساد؟ طبعا بالتربية داخل الفضاء الخاص، لكن وجود الفاسدين في أعلى هرم الدولة دليل على أن جزءا أفلت منها أو أنها لا تنفع معهم؛ وهنا يأتي دور القانون وهو الحامي الأهم للأخلاق في الفضاء العام. ربما أتى الزمن لكي نعيد صياغة البيت الشهير وننشد: وإنما الأمم القوانين ما بقيَت.. فإن هم ذهبت قوانينهم ذهبوا.

 

(5)

يمكننا الآن أن نرسم ملامح نموذج نظري للمسألة الأخلاقية.

- للإنسانية كنز من التجارب بخصوص المواقف والتصرفات الكفيلة بضمان مصلحة الأفراد والمجموعات دون الإضرار بمصلحة الآخرين، ويسمى هذا الكنز الأخلاق.

 

- تشهد الإنسانية تتابع أجيال تنشأ بغرائز منها البنّاءة التي لا تهتمّ إلا بتحقيق بمصلحة الشخص ولو على حساب المجموعة.

 

- لتربية هذه الأجيال، خط الدفاع الأول مصفاة مكونة من ثلاث مؤسسات: العائلة، المدرسة، المسجد (أو الكنيسة، المعبد بالنسبة للثقافات الأخرى) هذه المؤسسات قائمة بواجبها ومن ثم علينا أن نردّد ''قف للمربي، للمدرّس، للواعظ، ووفّه التبجيل''؛ فلولاهم لكان المجتمع غابة لا يعيش فيها إلا الأعنف والأخبث.

 

- لكن هذه المصفاة على أهميتها لا تحلّ كل المشاكل؛ هنا يأتي دور خطّ الدفاع الثاني أي القانون. للتذكير نحن توقفنا عن بيع البشر على قارعة الطريق، لا بسبب التربية والوعظ، وإنما نتيجة لقوانين ألغت الرقّ، وضَعَها مَن أحسنت العائلة والمدرسة والمؤسسة الدينية تربيتهم.

 

- مما يتضح اليوم من تجربة كل الشعوب، أن أكبر سبب في التصرفات المدمرة جماعيا هو الفساد الذي لن يختفي إلا بقوانين بالغة الصرامة وبآليات فعالة لكشفه، مثل صحافة حرة غير فاسدة هي نفسها، وقضاء مستقل نُظّف من القضاة الفاسدين، وجهاز أمني نُظّف هو الآخر، وخاصة بمجتمع مدني يقظ وسلطة سياسية غير فاسدة، تسهر على كامل المعركة التي لا تنتهي.

 

دور القانون بالطبع لا ينتهي عند إشكالية الفساد. فتحريم التدخين في الأماكن العامة ومعاقبة الضجيج وتلويث البيئة، من بين ميادين عديدة لا تُفرض فيها الأخلاق الجماعية إلا بقانون لا يعلو عليه أحد.

بهذا وبهذا فقط سنعيد إلى الوجود كل القيم التي تصنع الشعوب العظيمة، وأساسا التفاني في العمل والتنافس الشريف والنزاهة والصدق في البحث عن الصالح العام.

 

- لقائل أن يقول لكن توجد لدينا كل القوانين المطلوبة ومع هذا ما زال الفساد ينخرنا ومعه بقية التصرفات المدمرة. السبب أن القانون شرط ضروري لكنه غير كاف؛ أنت لا تربي طفلك على مكارم أخلاق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بوضع قائمة قوانين في المطبخ ليتبعها وإنما بالقدوة والمثال. إنها نفس الآلية في الفضاء العام، إن لم يعط الرؤساء والملوك والأمراء والولاة وكبار الموظفين القدوة عن قناعة أو عن خوف من القانون فإننا سنبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة.

 

 (6)

أخيرا؛ أنت لا تستطيع أن تحكم على امرأة لا تجد ما تقتات به هي وصغارها فتبيع جسدها بانعدام الأخلاق، فالمُدان هو المجتمع وليست هي.

 

قبل أن تطالب الجوعى بعدم السرقة، اعطهم خبزا.

قبل أن تدين الجهلة بجهلهم اسأل نفسك من علّمت.

قبل أن تطالب الآخرين بالتصرفات الأخلاقية، اسأل نفسك هل أنت من يعطي المثل أو من يكتفي بإعطاء الأوامر.

 

 

*الجزيرة نت

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر