نفذت إسرائيل في هجومها على قطاع غزة ثلاث جرائم حرب بالتوازي: الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والعقوبات الجماعية. وكان الهجوم المقصود على القطاع الصحّي والمنشآت الصحية أحد مظاهر جرائم الحرب التي ما زال جيش الاحتلال ينفّذها. وكان الهجوم على المنشآت الصحية والطبية، بما فيها المستشفيات، مخطّطاً مقصوداً ومنهجياً، وحاول تحقيق خمسة أهداف: تحطيم قدرة المنشآت الطبية والصحية على تقديم الخدمات للسكان المدنيين.
 
 تدمير منهجي للمنشآت الصحية نفسها، بما في ذلك المستشفيات، ومراكز الصحة الأولية، ومراكز التطعيم. خرق القانون الدولي الذي ينص على احترام حيادية (وسلامة) العاملين في القطاع الصحي، بالاعتداء المقصود والمباشر على الأطباء والمسعفين ومختلف العاملين في القطاع الصحّي. تدمير قدرة الفلسطينيين على الصمود والبقاء في قطاع غزة. تدمير القدرة على الحياة في قطاع غزة بهدف ترحيل سكانه بالقوة، ولاحقاً طوعياً.
 
وشملت الاعتداءات الإسرائيلية أولاً تدميراً كاملاً أو جزئياً لـ30 مستشفى من أصل 36 مستشفى عاملا في قطاع غزة، وتدمير قدرتها على تقديم الخدمات الحيوية والطبية. كما شملت تدمير أكثر من 98 مركزاً صحياً، ومعظمها سُوّي بالأرض، وتدمير مكونات المنظومة الصحية من مخازن طبية، وصيدليات، ومصادر طاقة، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 150 سيارة إسعاف.
 
ومثّل الاعتداء المباشر على العاملين في القطاع الصحّي ثانياً... نموذجاً آخر لجرائم الحرب الإسرائيلية، حيث استُشهد حتى كتابة هذا المقال 349 طبيباً وممرضاً وعاملاً صحّياً، وأصيب بالجراح أكثر من ثلاثمائة آخرين. وأدّى القصف المباشر على المستشفيات إلى استشهاد 660 مريضاً وزائراً، وإلى جرح 843 آخرين.
 
وكان اعتقال الأطباء ومدراء المستشفيات والعاملين الصحيين واحداً من أخطر الجرائم، حيث جرى اختطاف ما لا يقل عن 90 منهم، وزجّهم في معسكرات الاعتقال، وتعرضوا للتعذيب الوحشي بهدف إجبارهم على الادلاء باعترافاتٍ لا أساس لها، لتبرير الاعتداءات الإسرائيلية على المستشفيات. وشمل التعذيب الضرب وتكسير العظام، والتعذيب بالصعقات الكهربائية والخنق في الماء، ما أدى إلى استشهاد عدد منهم.
 
وما زالت حالة مدير مستشفى الشفاء (أكبر مستشفى في قطاع غزة والضفة الغربية)، محمد أبو سلمية، تثير مخاوف عديدة على حياته، لأنه رفض الاعتراف بما لم يقم به. وذكرت تقارير أنه تعرّض لتكسير أطرافه والإذلال بتعريته والتنكيل الوحشي به.
 
وذكًّرت أشكال التعذيب التي اتبعها جيش الاحتلال بما جرى سابقاً في معسكر الاعتقال الأميركي غوانتانامو، وفي سجن أبو غريب في العراق، بل أطلق الأسرى الفلسطينيون على معسكر الاعتقال الجديد قرب بئر السبع اسم "غوانتانامو الجديد".
 
أما الشكل الثالث للاعتداء على الصحة فكان التدمير المنهجي للبنية التحتية، بما في ذلك تدمير شبكات الكهرباء والمياه والمجاري، ما سبّب تدميراً بيئياً لا سابق له، كانت نتيجته المباشرة انتشار رهيب للأمراض والأوبئة، حيث سجلت ما لا يقل عن 700 ألف إصابة بالأمراض، ومنها أمراض الجهازيْن التنفسي والهضمي.
 
وأدّى غياب المياه النظيفة والمرافق الصحية إلى أكثر من 120 ألف إصابة بالأمراض الجلدية، إضافة إلى انتشار أوبئة خطيرة كالتهاب الكبد الوبائي الذي أصاب حتى اللحظة عشرة آلاف شخص. ويحمل تعطيل خدمات تطعيم الأطفال لأكثر من 145 يوماً خطر انتشار أوبئة خطيرة كالحصبة، التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة أو الضرر الخطير في الجهاز العصبي إن أصابت الأطفال الرضّع.
 
ويمثل خطر انفجار وباء شلل الأطفال وغيره كابوساً خطيراً يقضّ مضاجع العاملين في الحقل الصحّي. وأدّى تدمير ما لا يقل عن 70% من البيوت وإجبار 90% من السكان على الرحيل عن بيوتهم ومناطق سكنهم إلى تدمير كل ما كان قائماً من ظروف الحياة الصحية والوقائية من الأمراض.
 
أما الشكل الرابع للتدمير المنهجي للصحة، فكان منع وصول الغذاء والعلاج والمياه إلى سكان قطاع غزة الذين يحاصرهم الجيش الإسرائيلي. وحتى اللحظة، أدّى المنع الكامل لأي مساعدات إنسانية إلى إصابة ما لا يقل عن سبعمائة ألف شخص بالمجاعة، نصفهم (350 ألفاً) من الأطفال.
 
هذا إضافة إلى إصابة جميع سكان وأطفال قطاع غزة فعلياً بسوء التغذية، وهذا ما جاءت عليه تقارير منظمة الغذاء العالمية. وأدّى الحرمان من الدواء والرعاية الصحية إلى مضاعفات خطيرة لدى عشرات آلاف المصابين بالأمراض المزمنة، كالضغط والسكّري وأمراض القلب. وكان أثر ذلك كارثيا على المصابين بأمراض الدم، كالثلاسيميا والهيموفيليا.
 
ويتعرّض عشرة آلاف مريض بالسرطان للموت الحتمي والمبكّر، لعدم توفّر أي علاج لأمراضهم في قطاع غزة، ويمثّل منع كثيرين ممن اعتادوا تلقّي العلاج في القدس والضفة الغربية من الانتقال والسفر حكماً بالإعدام عليهم. ويضاف إلى ذلك عذاب آلام السرطان التي لا تحتمل بسبب عدم توفر العلاجات والمسكنات.
 
لم أتخيّل كطبيب، في كل سنوات مهنتي منذ درست الطب، أنني سأسمع من زملائنا في قطاع غزة في القرن الواحد والعشرين روايات عن اضطرارهم إلى إجراء عمليات بتر من دون تخدير، وإجراء عمليات جراحية لأطفال، بهدف إنقاذ حياتهم من الموت الأكيد، من دون تخدير. هذا عدا عن حالات موت عشرات الأطفال الخدّج في الحاضنات بسبب منع إسرائيل وصول الكهرباء أو الأكسجين إلى المستشفيات التي كانوا يعالجون فيها.
 
وتتعرّض النساء بشكل خاص إلى آثار كارثية وظروف مهينة، لانعدام المرافق والمستلزمات الصحية، وتتعرض حياة أكثر من 50 ألف امرأة حامل للخطر لاضطرارهن إلى إنجاب أطفالهم في ظروف غير صحية ومن دون رعاية طبية كاملة. وبالقدر نفسه، تتعرض صحة 64 ألف امرأة مرضعة وأطفالهن للخطر، بسبب نقص الغذاء والحليب والفيتامينات اللازمة.
 
وهكذا تستخدم آلة القتل الإسرائيلية ثلاثية إجرامية لقتل الفلسطينيين في قطاع غزّة بالجمع بين:
 
أولا، القتل بالقصف بالقنابل والرصاص، حيث تجاوزت كمية القذائف التي ألقيت على قطاع غزة 69 ألف طن من المتفجّرات، بما يتجاوز ضعف القدرة التقديرية للقنبلتين الذرّيتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبما يعادل 30 كغم من المتفجّرات لكل طفل وامرأة ورجل في قطاع غزة. وحتى كتابة هذا المقال، وصل عدد الشهداء إلى 37 ألفاً، منهم ما لا يقل عن 12 ألف طفل، وتجاوز عدد الجرحى 70 ألفاً، في ما يمثل 4.5% من سكان قطاع غزة. ثانيا، القتل بالتجويع والحرمان من الغذاء. ثالثا، القتل بالأمراض والأوبئة.
 
وتؤكّد اعتداءات جيش الاحتلال على مستشفيات الضفة الغربية منهجية خرق القوانين الدولية من إسرائيل، حيث لم يتورّع جيش الاحتلال عن اقتحام مستشفيات الضفة الغربية والقدس، خصوصاً مستشفى المقاصد الخيرية ومستشفيات طولكرم وجنين.
 
ولم تتورّع القوات الخاصة الإسرائيلية عن التنكّر بلباس الأطباء والمسعفين، وحتى التنكر كمرضى معاقين لاقتحام مستشفى ابن سينا في جنين، واغتيال جريحٍ مصابٍ بالإعاقة على فراش علاجه وهو نائم بالإضافة إلى اثنين من مرافقيه. ويؤكد ذلك أن إسرائيل لا تقيم وزناً لأي قانون أو أعراف دولية، ولا تتورّع عن الخرق المنهجي لكل ما ينصّ عليه القانون الإنساني الدولي، ثم تهاجم منظمة الصحة الدولية لأنها تنتقد الممارسات الإسرائيلية.
 
لا تتحمّل إسرائيل وحدها وزر كل هذه الجرائم، بل يشاركها المسؤولية حكّام الدول الغربية الصامتون على جرائمها والمتسترون عليها والمدافعون عنها، وفي مقدمتهم حكام الولايات المتحدة وبريطانيا. والذين تلقي مواقفهم ظلالاً قاتمة على ادّعاءاتهم المنافقة بالتمسّك بحقوق الإنسان والديمقراطية والقانون الدولي، وتظهر بجلاء ازدواجية المعايير عند المقارنة بين مواقفها في أوكرانيا مثلاً وتلك إزاء فلسطين.
 
 
 
ولم تكن إسرائيل لتمعِن في جرائمها ضد القطاع الصحّي والإنساني لولا شعورها بالحصانة أمام القانونين، الدولي والإنساني الدولي، بسبب الحماية التي تمنحها إياها دول غربية عديدة، بما في ذلك استخدام الفيتو أربع مرات من الولايات المتحدة، لمنع إصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، ووقف المجزرة الجارية ضد شعبٍ بكامله، بنسائه ورجاله وأطفاله.
 
ولن يكون ممكناً وقف هذه المجزرة إلا بوقف شامل ودائم لإطلاق النار، وإجبار إسرائيل على فتح الممرّات للمساعدات الإنسانية الكاملة فوراً ومن دون قيود، ومن دون المباشرة فوراً بترميم بنية القطاع والخدمات الصحية، وتجهيزها بالأدوات والأجهزة، والأدوية، والأبنية المؤقتة والدائمة. ولن يتحقّق ذلك كله إلا بفرض العقوبات الجدّية على حكومة الاحتلال لإجبارها على وقف عدوانها والرضوخ للقانون والقواعد الإنسانية الدولية.
 
لا يوجد فرق بين الطفلة آنا فرانك التي كانت ضحية للبطش النازي ضد اليهود والطفلة هند رجب التي قضت ساعاتٍ تستجدي نجدة، بعد أن حوصرت مع جثث ستة من عائلتها قتلتهم الدبّابات الإسرائيلية، لتستشهد هي وطاقم الإسعاف الفلسطيني الذي وصل لنجدتها برصاص الدبابات نفسها. ولا يوجد فرق بين آنا فرانك والطفل الفلسطيني الذي فطر قلوبنا عندما شاهدناه يسأل والده ما إذا كانت يداه اللتان بُترتا نتيجة القصف الإسرائيلي ستنموان مرة أخرى عندما يكبُر.
 
الإنسان هو الإنسان نفسه عندما يكون ضحية الإجرام، والقاتل هو القاتل نفسه، أياً كانت هويته وأياً كان عرقه أو دينه.

(العربي الجديد)

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر