الأسماء هي الأشياء: سردية الطوفان


وليد سيف

... إذ لا تتمثّل الأشياء في وعينا إلا من خلال اللغة التي تتوسّط بين الذات الواعية والعالم الموضوعي. فما لا تسميه الكلمات يبقى محتجبا عن مدركاتنا حتى تشيّده اللغة. ولكن الكلام إما ظهورٌ وبيانٌ وكشف وإما حجابٌ وتغييب وتعمية. وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن استجاباتنا العملية للعالم من حولنا محكومة بالخطاب الذي نتبنّاه ونرى به الأشياء. فيه نحيا ونحيي، وبه نموت ونميت. إنه النعيم والجحيم هنا على هذه الأرض. والصراع بين الخطابات المتعارضة هو صراعٌ على امتلاك الواقع وتشييده، وليس مجرّد رياضات ذهنية وتأملات فلسفية منبتّة عن الواقع ومصائر البلاد والعباد.
 
هل كانت الأعمال الأدبية والفنية والفلسفية التي استبطنت خطاب المركزية الأوروبية الاستعمارية هي من أسّس لذلك الخطاب ثم بثّه في الثقافة العامة، أم أنها كانت متأثرة - بوعي أو بغير وعي - بالثقافة السائدة وبيئتها الموضوعية؟ أحسب أنها كانت نتاج التفاعل بين هذا وذاك، فاستمدّت من الواقع الاستعماري وأمدّته بأشكال الثقافة العليا: الأدب والفن والفكر.
 
كل هذا يؤكد أهمية التدافع بين السرديات ودورها الحاسم في المعترك السياسي. وقد تطغى سردية الظلم والعدوان إلى حين، إذا كان صاحبُها متغلّبا بالقوة السياسية والعسكرية والمادّية، ويسيطر على وسائط التأثير وإدارة العقول. وأخطر ما يمكن أن يحقّقه هو أن يخترق الوسط الاجتماعي السياسي للطرف المظلوم المغلوب نفسه، فترى بعض أبنائه يتبنّون خطاب الخصم بدوافع وأسباب مختلفة، منها الاستلاب والتغريب والهزيمة النفسية وكراهية الذات الجمعية، ومنها الخصومات الأيديولوجية والانقسامات العقدية، ومنها الانكفاء القُطري والانعزالية والاستعلاء على الروابط الكبرى، ومنها دعاوى العقلانية والواقعية التي تُساق لتسويغ الاستسلام والعجز والتخاذل، ومنها كذلك الانقسامات العرقية والطائفية داخل الوطن الواحد، ما يدفع بعض الجماعات إلى مواطأة العدو الخارجي، بل الاستقواء به.
 
وإذا كانت هذه العوامل والأسباب الداخلية مما يواطِئ سردية العدو، فلعل الأخفى منها توهين خطاب الحقّ والحرية بدفع أصحابه، تحت وطأة الظروف القاهرة، إلى نزعات الاعتذار والدفاع والتسويغ، بما يملي عليهم تكييف خطابهم وتقليصِه بغرض تمريره في القنوات الضيّقة المتاحة، لضمان قدرٍ ما من قبول الآخر وتعاطفه، على وفق معاييره ومراجعه الخاصّة المختلفة التي لا تتطابق تماما مع سردية صاحب القضية.
 
وأعلم أن هذه إشكاليةٌ ذاتُ أبعادٍ متشابكةٍ متضاربةٍ أحيانا، لا يستقيم معها الاختزال والتبسيط والتفاصل الحدّي بين الكل أو لا شيء، فمن طبيعة الخطاب اليومي بين الناس في سياق التفاعل الاجتماعي أن يراعي المتحدث في أسلوبه وانتقاءاته أحوال المتلقي، الذي يمثّل ركنا أساسا لا يكتمل الخطاب وعملية التواصل بدونه: السن والجنس، وطبيعة العلاقة بين المتخاطبين، والخلفية الثقافية والاجتماعية والدينية والعرقية... إلخ. كما يراعي سياق الخطاب وظرفه، إلى جانب أدوات التواصل والإبلاغ. وبغير مراعاة هذه الشروط يمكن أن تنهار عملية التواصل ومعها رسالة الخطاب وغايته وتأثيره المنشود.
 
ولكن هذه الشروط التداولية (البراغماتية) تبقى في حدودها الطبيعية ما لم ينزلق صاحب الخطاب إلى تغيير جوهر خطابه ورسالته استرضاءً لسامعه، فيخرُج منه إلى النفاق والتنازل وتشويه الرواية. وكل ذلك يقتضي ميزانا دقيقا لا يتوفّر عليه الجميع. وقد شهدنا نماذج منه في حوارات الإعلام الغربي حول مجازر غزّة، تصلح أن تكون مادّة بحثية في العلوم اللسانية الاجتماعية السياسية.
 
- هل تدين هجوم حماس الإرهابي في السابع من أكتوبر؟ هكذا يفتتح الإعلامي المقابلة، في خطّة خبيثة بيّتت بليل مع مستخدميه. ولا يذكر الهجوم حتى يتبعَه بسيلٍ من الأوصاف القبيحة وأحكام الإدانة. فهو عملية إرهابية غير مسبوقة في فظائعها، ويصوّر تلك الفظائع المزعومة التي ثبت بطلانها، ويصرّ على أنها لم تكن استجابة لأي استفزازٍ من طرف إسرائيل! فإذا حاول الضيف تجنّب الجواب، ألحّ عليه الإعلامي المضيف، وحاصره به ولم يسمح له أن يتحوّل عنه إلى سياقه التاريخي الممتدّ على مدى مائة عام من المظالم والجرائم التي أنزلها المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي بالشعب الفلسطيني. فإذا أقرّه الضيف طوْعا أو كُرها ليخلص إلى عرض الجرائم الصهيونية من قبل ومن بعد، فقد وقع في الفخّ الذي نصبه له الإعلامي الصهيوني. فلا قبل للإرهاب يسوّغه، وقد نُفيت عنه صفة المقاومة المشروعة، وبذلك تصبح سيرة القضية قبل الواقعة خارج الحساب والتقويم. وأما ما تلاه من المجازر الإسرائيلية المتوحشة، فهو حقّ الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه ضد "الإرهاب" الذي يتحمّل وحده مسؤولية الأضرار الجانبية التي تقع بالمدنيّين مهما تبلغ فداحتها. فإذا اشتدّ الضيف في معارضة هذا المنطق، تساءل المضيف: أما وقد أقررْتَ أنه فعل إرهابي وأن فاعله حركة إرهابية، فماذا عساك تفعل لو كنت مكان "إسرائيل" غير الذي تفعله الآن؟
 
على هذا النحو يجرى توجيه الحوار. وعبثا يحاول الضيف أن يسرد الرواية الفلسطينية، من وعد بلفور، إلى تمكين الانتداب البريطاني للحركة الصهيونية في فلسطين، وقمع الحركة الوطنية الفلسطينية في مقاومة المشروع الفلسطيني الاستعماري، إلى اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948 وما صاحبه من المجازر والتهجير القسري والإحلال والتنظيف العرقي، إلى احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، إلى استمرار الاحتلال منذ ذلك الحين وتمدّد المستوطنات، مع التنكيل بأشكاله المختلفة، والفصل العنصري، والحصار الذي حوّل غزّة إلى معسكر اعتقال.
 
يجرى تحويل عبء السؤال على الفلسطيني، أو من يؤيد حقوقه أو بعض حقوقه. والأحرى أن يوجّه السؤال ابتداء إلى الطرف الصهيوني ومؤيديه: ماذا تريد إسرائيل؟ لنعرف حدود ما يجب أن يرضخ له الفلسطيني حسب السياسات والاستراتيجيات الصهيونية وداعميها. ولصالح الجدال فقط، فلينطلق السؤال من محدّدات الشرعية الدولية الظالمة أصلا، والتي قرّرتها نفس القوى الاستعمارية التي أنشأت إسرائيل ومكّنت لها، بدلا من شرعية الحقّ المهدور والحلم الفلسطيني الممتد على كامل التراب الفلسطيني.
 
- ماذا تريد إسرائيل؟ أما الاعتراف بوجودها على نحو ثمانين بالمئة من الوطن الفلسطيني التاريخي، وإسقاط الكفاح المسلح مع وصمه بالإرهاب، فقد سلّمت بها اتفاقات أوسلو، والتزمت سلطتها التنسيق الأمني "المقدّس"! "المدنّس" لتكون وكيلا أمنيا لإسرائيل، مع إبقاء قضية اللاجئين وحقّ العودة معلّقة ضبابية، تمويها على إخراجها من مشهد التسوية النهائية. ومع كل هذه التنازلات الفادحة، بقي الاحتلال جاثما على صدور الناس، وتضاعفت المستوطنات، وزاد القمع والتنكيل والاقتلاع والحصار والعزل العنصري. واعترف رئيس السلطة أنه لا يملك من أمره شيئا، حتى في تحرّكاته الشخصية، إلا أن يشكوهم إلى الله وإلى الأمم المتحدة التي لا تملك بدورها من أمرها شيئا إلا ما تقرّره أميركا في مجلس الأمن، ثم يتوسّل إلى المجتمع الدولي أن يوفر الحماية للفلسطينيين الذين يتعرّضون للقتل في كل يوم، على الأقل أسوةً بحماية الحيوان! بقي الاحتلال وتعاظمت شراستُه، إلا أن "أوسلو" حرّرته من مسؤولياته القانونية الدولية بوصفه قوة احتلال.
 
فماذا تريد إسرائيل إذن؟ لا دولتان، ولو كانت إحداهما هزيلة مقطّعة الأوصال، ولا دولة واحدة ثنائية القومية. لم يبق إلا أن يختفي الشعب الفلسطيني على نحو ما، بالإبادة الجمعية والحلّ النهائي Final Solution أو بالتهجير الجمعي إلى أوطان بديلة! فإن تعذّر ذلك، فلا أكثر من إدارات محلية لجيوب سكانية لا تواصل جغرافياً بينها، من دون أن تكون لها سيادة على الأرض والمعابر، وعلى أن تبقى مواردها واقتصادها واحتياجاتها الحيوية رهينة السيطرة الإسرائيلية، فتمنع متى شاءت وكيفما شاءت!
 
هل هناك خياراتٌ أخرى تدلّنا عليها إسرائيل؟ فإذا كان هذا هو الحال، فماذا يتبقّى للشعب الفلسطيني غير المقاومة بكل أشكالها، وهو ما تقرّه الشرعية الدولية للشعوب الواقعة تحت الاحتلال!
 
سيعود الإعلامي الصهيوني ليقول لك وهو يحاورك: لا سبيل إلى حلّ القضية إلا بالعملية السياسية. ولكن العملية السياسية قد حصلت بكل تنازلاتها الفادحة من عرّابي أوسلو، ومع ذلك اتّخذتها إسرائيل وراءها ظهريا. فما الذي تريده إسرائيل أكثر من ذلك؟ لا يجد الإعلامي المتصهين إلا أن يعود إلى إدانة الإرهاب الذي لا يسوّغه عنده شيء، حتى مع انسداد الأفق السياسي واستمرار الاحتلال بكل جرائمه، وتطاول أمد العذاب الفلسطيني وحرمان الفلسطيني من حقوقه الإنسانية الأساسية.
 
فإذا كان الاحتلال مستمرّا، وكانت مقاومته حقّا شرعيا، ومع ذلك توصَم بالإرهاب في حالتنا، فهل يستطيع الإعلامي المتصهين أن يرفع الالتباس بين المقاومة والإرهاب؟ ستجد أنه في الحقيقة يتماهى مع خطاب الكيان الصهيوني المحتلّ؛ فكل مقاومة إرهابٌ وتخريبٌ مهما تكن توجّهاتها العقدية والسياسية، ومهما تختلف فصائلها وأسماؤها، إلا أن تكون المقاومة - على رأي الأغنية البئيسة التي نطقت عن روح أوسلو- هي المقاومة "بزرع الزيتون والليمون والتفاح! وبذلك وحده لا نترك العدو يوما يرتاح!!". ولكن حتى الزيتون والليمون والتفاح تتعرّض للقطع والتجريف والمصادرة من دون رادع. فأين نذهب؟
 
أما وقد سدّت إسرائيل الطرق كلها إلا طريق الاندثار، فليس غير المقاومة وحصار الحصار! هذا هو قدرنا الذي لا مفرّ منه، مهما تكن التضحيات. فما هي إلا الحرية أو الموت، كما قال الثائر الأممي غيفارا في اختتام خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات يوم، مع تصفيق الحاضرين! ونحن الآن أوْلى بهذا الشعار، إذ هذه هي الخيارات التي فرضتها علينا إسرائيل. وإنها لمفارقةٌ درامية، فالمقاومة في حالنا ليست خيارا بين خياراتٍ في ظل السياسات الصهيونية المتطرّفة المتوحشة التي جعلت المقاومة التي تصمها بالإرهاب فرضا مفروضا علينا. وذلك من عمى البصيرة الذي تورِثه غطرسة القوة والتطرّف العقدي، حتى ترتدّ على أصحابها. وبذلك يكون العدو الصهيوني الذي يستمدّ ذرائعه من هوسه الأمني، هو نفسه الخطر الأعظم على أمنه، كما على أمن ضحاياه، ثم على أمن العالم بأسره. وهذا معنى قول القائل المتعقّل المتبصّر في الغرب نفسه لحكوماته: أنقذوا إسرائيل من نفسها، بممارسة شيءٍ من القسوة الأبوية الرحيمة! وهي لعمري أفضل نصيحة لصالح إسرائيل، وإن كانت تحمل قدرا من التعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني. ولكنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ولعل هذا العمى الصهيوني يعمل في صالحنا في آخر المطاف، إذ يردّنا – طوعا أو كرها- إلى سردية حقّنا الكامل في الوطن الفلسطيني، طالما أن التنازلات المخجلة، مهما تعظم، لا تأتي إلا بالمزيد من العذاب والظلم.
 
فليكن، ولا اعتذار ولا تخاجل: الحرية والوطن أو الموت. هذا ما يختارُه أصحاب الحقّ... و... نعم... هذا هو الخيار الذي يفرضه علينا العدو. وعلى ذلك يلتقي الماء على أمرٍ قد قُدِّر له، ليكون الطوفان! إلى أن تبلع الأرض ماءها، وتقلع السماء، وتلوح يمامة البرّ في الأفق، وتستوي السفينة على الجودي!

(العربي الجديد)

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر