عن الصهيوني العربي


نبيل البكيري

 
من منّا، نحن العرب، كان يخطرُ في باله يوماً أنه سيعيش مرحلة يسمع فيها بمصطلح الصهيوني العربي؟ من منّا كان حتى يفكر مجرد تفكير أن يمر مثل هذه المصطلح يوماً على مسامعه، حتى جاء هذا الزمن العربي الرديء، الذي انقلبت فيه كل المفاهيم رأساً على عقب، وتبدّلت فيها الحقائق والتوجّهات، وغدت أمورٌ كثيرة كانت مُحرّمة ومُجرّمة شيئا طبيعياً ومألوفاً، ولو في حدود التبنّي الرسمي لها.
 
ما الذي يجري؟ ولماذا وصلنا إلى هنا يا تُرى؟ وهل ما نحن فيه طبيعي نتاج تحوّلات كبيرة في الواقع والتصورات والأفكار، أم أن ما يجري لا يزال غير طبيعي في نظر الناس، وصادما للناس وأفكارهم وثوابتهم، وأننا في وضع استثنائي غير طبيعي، لا يمكن أن يستمرّ ويُطبع الناس معه ويألفونه، وهل لا تزال هذه الظاهرة في مستوى محدود ومحصور في نخبٍ وظيفية ليست ذات تأثير وحضور وثقل فكري أو سياسي أو ثقافي، أم أن الأمر أبعد من ذلك بكثير؟
 
تحتاج الإجابة عن مثل هذه التساؤلات لبحث أعمق في جذر هذا الإشكال القائم، إشكال اختلاط المفاهيم وتبدّلاتها، بهذه الكيفية التي لا تنفصل مطلقاً عما باتت تُسمّى اليوم ظاهرة التفاهة التي غدت سيدة الموقف في كثير من جوانب حياتنا اليومية في ظل الفضاء التواصلي المفتوح الذي يقذف يومياً، بل ولحظياً، بعشرات ومئات من مظاهر التفاهة والشعبوية الجارفة والمهدّدة حتى للذوق العام.
 
بالعودة إلى موضوع هذا الحديث، وهو ما بات يُسمّى اليوم مجازاً الصهيوني العربي، أو المتصهينين العرب، أو اليهودي الوظيفي بحسب عبد الوهاب المسيري، فهي ظاهرةٌ باتت لا تخطئها العين في ظل اللحظة العربية المعتلة والمريرة، وتداعيات ما بعد ربيع الشعوب وخريف أنظمة النكبة والنكسة، وترتبط بكيف تمكّنت موجة الثورات المضادّة من تشويه كل المفاهيم والمصطلحات، وتخريب كل ما له علاقة بإرادة الشعوب وكرامتها وحقوقها في حياةٍ حرّة كريمة.
 
ما تقوم به موجة الثورة المضادة ليس بمعزل عن مشروع الصهيونية العالمية وأدواتها في المنطقة العربية التي سخّرت كل الطاقات والإمكانات لكسر موجة ربيع العرب الديمقراطي، وكيف آل مشهد ما بعد الربيع العربي عن واقع محطّم ومجتمعات ممزّقة ومدمّرة ومفكّكة بفعل المعايير المزدوجة للغرب الديمقراطي وأدواته التدميرية التي سخرت كل إمكاناتها لوقف أي محاولة للانتقال السياسي والديمقراطي العربي على مدى العشرية الماضية.
 
لم يتوقّف الأمر عند هذا المستوى من الخراب والدمار والانهيارات القيمية والأخلاقية، بل ذهب الأمر إلى معركة هي الأخطر، وهي معركة المفاهيم والمصطلحات، أي الحرب الفكرية والثقافية التي قال عنها يوما المفكر، عصمت سيف الدولة، إن الصهيونية وحلفاءها بعد أن انهزموا عسكريا في جبهة القتال في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فتحوا من جباهنا ثغراتٍ وغزوا عقولنا. وأضاف "اختصروا الطريق إلى النصر النهائي، فبدلاً من احتلال أرضنا جزءا جزءا، بدأوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة". وبدلاً من الاستيلاء على الوطن، يحاولون الاستيلاء على البشر، ليكون الوطن لهم بعد ذلك من دون حاجةٍ إلى القهر.
 
ما تنبّأ به عصمت سيف الدولة هو ما أعاد توضيحه وشرحه بشكل دقيق مفكك العقل الصهيوني، عبد الوهاب المسيري، الذي قال: ستأتي مرحلة يلعب فيها المسلم دور اليهودي، والذين سيمثلون دولة إسرائيل خير تمثيل، وهذا اليهودي الجديد أو اليهودي الوظيفي كما يسمّيه المسيري، سيأتي وسيصلي العشاء مع المسلمين جماعة، لكنه، في الوقت نفسه، سيقوم بالمهمة التي كان يقوم به الجنرال اليهودي والتاجر الصهيوني بشكل أفضل.
 
ربما كان مثل هذا الكلام الذي كان يقوله المسيري أشبه بالنكتة، لغرابتها وخيالها، فضرب بها مثلاً، لكنه لم يكن ينكّت هنا، وإنما كان يوصف ويشرح حالة تتشكل وفقاً لمنهجه التفسيري للظاهرة الصهيونية وخطورتها وأدواتها الوظيفية التي تسخرها وتسعى إلى تشكيلها والاشتغال عليها على أرض الواقع. وكان ما يقوله المسيري حينها أشبه بخيال لدى بعضهم، ولكنه، وفقا للمنظور العلمي الذي انطلق منه المسيري في تفكيك الصهيونية وأساطيرها المؤسسة لها، كان يقدّم تفسيراً متقدّماً للظاهرة وتشكلاتها المستقبلية في ضوء المنظور الكلي للفكر الصهيوني المتداخل والملتبس ضمن المنظومة الفكرية الغربية.
 
لهذا، ما نراه اليوم، من تنبّؤات منهج المسيري وفقا لمنهجه التفسيري في تفكيك الصهيونية، وتشكلاتها العالمية، ما نلاحظه في الحالة العربية، وهي الحالة الأكثر تعقيداً والأغرب في أن تتسلل إلى قلبها الفكرة الصهيونية، فالصهيوني العربي الذي تنبّأ به المسيري لم يكن يتجلى مثلما هو عليه اليوم، حيث تتقدّمها اليوم الدول العربية المطبّعة مع الصهيونية، وهي الجسر الذي تعبر من خلاله كل مظاهر التصهين العربي، فقد تسلّلت حالة التصهين في الحالة العربية لتصل حتى إلى منبر المسجد وخطبة الجمعة، وهو المكان الذي كان يستحيل أن يخطر على بالنا، أو أن نفكر يوماً أن يكون هناك خطيب متصهين، يُستخدم أداة لخدمة المشروع الصهيوني، وهو في قمّة احتشاده وبلاهته معا، أنه يؤدّي دوراً توعويا تعبّدياً، كما قد يظن، في أحسن الأحوال، وهذه الحالة يمكن إدراك تمثلاتها في بعض خطب ما يُعرف بالمدخلية السلفية الجامية.
 
أما المسار الأكثر انكشافاً فهو مسار التطبيع التواصلي الذي بدأ يغزو بعض وسائل التواصل، وتخليق حالة تفاهة سائدة، فيما يتعلق ببروز أصوات شعبوية تتلبّس حالة من "النخبوية" المزيفة والضحلة جداً، والتي تُصدر خطاباً تافهاً ومزيّفا في ما يتعلق بما يجري في المشهد الراهن من حربٍ وصراع، وتًحاول أن تقدّم خطاباً تزيفيا للحالة الشعبوية التي هي، في حقيقة الأمر، أكثر وعيا وإدراكاً لكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
 
ولا يخفى على أحد أنه في كل ما يجري من عملية العبث والتزييف للسردية العربية تجاه الحالة الصهيونية، ثمّة مال سياسي للأنظمة المطبّعة، وهي التي تحاول أن تصدّر حالة التطبيع الذي لم يقتصر عند حدود قيام علاقات سياسية مع دولة الكيان الصهيوني رسمية، وإنما وصلت إلى مرحلة "صهينت" كل شيء، بما فيها حتى الرأي العام الشعبي الرافض للصهيونية جملة وتفصيلا.
 
من ملامح حالة التصهين العربي هذا التماهي مع السردية الصهيونية في كل شيء، حتى في توصيفها الحرب والصراع القائم اليوم، والذي يُراد منه حصر الحرب والصراع بين دولة الكيان وحركة حماس باعتبارها التي تسببت بكل ما يجري، وكأن الحرب مع دولة الاحتلال بدأت في 7 أكتوبر، وليس قبل 75 عاماً من تأسيس دولة الكيان الصهيوني المحتل، التي كانت فاتحة لكل محطات الصراع في التاريخ العربي المعاصر منذ 1948.
 
من ملامح الصهيوني العربي هذا اليوم تناقضاتٌ شتّى، ولكنها أكثر إضحاكاً، اتهام فصائل المقاومة الفلسطينية كلها أنها مرتبطة بإيران، وتستلم دعماً إيرانياً في وقتٍ تسعى دول هذه الكائنات الصهيونية العربية لنيل رضى إيران، وتقيم معها علاقات دبلوماسية وشاملة لكل شيء. والمضحك هو الحديث عن الدعم الإيراني، وكأن هذه الفصائل رافضة أي دعم وإسناد عربي لها ولمقاومتها، وهي التي ما تركت وسيلة للحصول على الدعم والاسناد العربي إلا وطرقته، وما ذهبت نحو إيران إلا حينما سدّ العرب في وجهها كل الأبواب، وتنكّروا لهذه الفصائل وللقضية الفلسطينية كلها، وتخلّوا عنها وباعوها بلا ثمن.
 
لا تزال كائنات أفيخاي أذرعي الغبية منبوذة وحقيرة، ولا تمثل حتى صفرا في المئة من الجمهور العربي. إنها أقرب إلى حالة الذباب الإلكتروني منها إلى أيٍّ من أشكال الحضور الثقافي والسياسي النوعي والحقيقي، هي حالة تفتقر لأيٍّ من أشكال الوجود الأخلاقي والإنساني، وتبقى حالة تعبر عن حالة اعتلال النظام الرسمي العربي.
 
ختاماً، لم تصل حالة التصهين العربي الراهن بعد إلى أن تكون ظاهرة مُشاهدَة وطبيعية، وإنما هي حالة معزولة وصغيرة، رغم أنها مدفوعة الأجر، وأن وراءها ميزانيات كبيرة لأجهزة مخابرات وتشجيعا رسميا واضحا. ولكن ما يُبقى هذه الحالة محاصرة في حدودها الدنيا هذا الوعي الشعبي الكبير، وهذه السردية التي لا يمكن اختراقها منذ 75 عاماً أن فلسطين أرض عربية محتلة، وتحريرها واجب كل عربي مسلم، بل وواجب كل أحرار العالم. هذه السردية العصية على التشويه والتجريف والتحريف هي التي كشفت كل هذا الزيف، وحمت حالة الوعي العربي الشعبي من المحيط إلى الخليج بسياج من الشعور المشترك بواجب المقاومة وقدسيتها والتحرير حتى النصر.
 
*نقلا عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر