شهر أيلول/ سبتمبر استثنائي في التاريخ المعاصر لليمن، ففي 26 أيلول من عام 1962، تمكنت ثلةٌ من العسكريين والسياسيين اليمنيين وبمساعدة مصرية سخية، من الإطاحة بالإمام الزيدي محمد البدر، ثالث الأئمة الذين حكموا شمال اليمن بعد نهاية حكم الدولة العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ولم تستمر فترة حكمهم أكثر من 44 عاماً، بقي فيه هذا الجزء من البلاد في عهدهم غارقاً في الظلام والجهل والتخلف والمرض، محكوماً بأنانية سلطوية كانت تنزع إلى الاستئثار بكل شيء، وإلى ممارسة ما يشبه العقاب الجماعي على شعب لم تكن تراه النخبة الإمامية السلالية جديراً بالحياة وبإنجازات العصر التي كانت شعوب المنطقة والعالم تتمتع بها.
 
بعد ستة عشر يوماً من الآن ستحل الذكرى الـ61 لثورة أيلول/ سبتمبر، التي أنتجت فيما بعد ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1963 ضد الاستعمار البريطاني في عدن وانتهت باستقلال جنوب البلاد في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967. ولهذا يشار إلى هذه المناسبات الثلاث بـ: أعياد الثورة اليمنية الخالدة، وهي كذلك بالفعل لأن التحول الذي شهدته البلاد بعد هذه المحطات التاريخية الفاصلة كان في غاية الأهمية، لأنه ببساطة أعاد فرض اليمن على الخارطة الدولية وأعاد وصل اليمنيين بالعالم وجعلهم على تماس بالحضارة الإنسانية، وبمظاهر لطالما افتقدوها، عدا ما كانت تنعم بها مستعمرة عدن البريطانية، بصفتها أكثر مدن شبه الجزيرة العربية تحضراً وازدهاراً في منتصف القرن الماضي.
 
اليوم تتحكم في صنعاء نخبةٌ طائفيةٌ مسكونةٌ بإعادة بعث الإمامة الزيدية الشيعية، بأي ثمن، وتعتقد أن لديها فرصة مواتية، مع أنها تدرك أنه ما من قابلية لدى الشعب اليمني لإعادة التعاطي مع هذا المشروع السياسي الكهنوتي البائد، لذا لجأت إلى سلاح أسلافها المعهود المتمثل في العنف وسفك الدماء، ودورات التجريف الطائفية لتأمين حاضنة شعبية مفترضة، وهي مهمة تُوَاجَهُ بتحدٍ كبير.
 
وهذه الجماعة تتكئ في طموحتها على المؤامرة الإقليمية والدولية التي تتعمد التعامل معها كجماعة سياسية وطنية، والاستمرار في عرض مروحة سخية من الخيارات السيئة بالنسبة لليمنيين، والتي تبدأ بفرض شراكة مع هذه الجماعة، وتصل إلى حد التفاوض على فرضها كسلطة أحادية.
 
تتظاهر هذه الجماعة الطائفية الموتورة باحترام رموز النظام الجمهوري، بدءاً بالشعار والعلم وانتهاء بمنظومة القوانين المعبر عن جوهر هذا النظام الذي لا يزال ممتداً اسمياً في شكل السلطة المفروضة بقوة السلاح في صنعاء، غير أن الممارسات اليومية لقيادات الجماعة تُظهر حقداً كبيراً على النظام الجمهوري والإساءة لرجاله ومناضليه.
 
وقد تعمدت تحوير الرمزية الوطنية والنضالية والتاريخية للنصب التذكاري لشهداء الثورة والجمهورية الموجود في ميدان السبعين بوسط العاصمة صنعاء، ليصبح قبراً لأحد قادة الجماعة ومزاراً يُذَكِّرُ اليمنيين بالانتكاسة الكبرى التي تسبب بها علي عبد الله صالح ومنظومته السلطوية العسكرية والمدنية والقبائلية، وتذكِّرهم أيضاً بالخيانة التي مارسها عبد ربه منصور هادي، الرئيس المنتخب بعد ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011.
 
لقد سخّرت دول الإقليم إمكانياتها الهائلة لدعم وصول جماعة الحوثي وانتصار مشروعها الطائفي سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فقد اختلطت أجنداتها على الساحة اليمنية منذ حرب صيف 94، بدوافع ثأرية وكيدية وبمنطق تصفية الحسابات البينية.
 
ذلك أن إغراءات ضعف ووهن الدولة اليمنية، ربما دفع بعض جيرانها إلى الاستثمار في تهيئة الأرضية لتصادم طويل الأجل بين التركة الإمامية الشيعية وبين النظام السياسي الجمهوري المعاصر الذي يؤمن به اليمنيون، رغم الثمن الفوري الذي دفعه هذا البعض، بذلك الانكشاف الخطير في عمقه الاستراتيجي، أمام معركة متعددة الأطراف إقليمياً ومتضادة الأهداف جيوسياسياً، تدور على الساحة اليمنية أو تتوسلها.
 
على أن الجريمة التي ارتكبها قادةٌ أبرزهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومن سكت من رجال عهده الذين حكموا معظم العهد الجمهوري، هي في تقديري الجريمة الكبرى التي فتحت المجال للتغول الخارجي، وساهمت في إعادة وضع اليمنيين أمام تحدي المواجهة المكلفة جداً مع المشروع الإمامي الشيعي، فقد قام صالح ورجاله بخديعة اليمنيين، عندما أقنعهم بأن الحوثيين مجرد "قفاز" وواجهة لإعادة استعادة السلطة لا أكثر.
 
أما الرئيس هادي ورجاله فقد تصرفوا إزاء التحديات التي طاولت الدولة اليمنية الواقفين في هرمها، بعقلية "النازح المحايد" من حرب 13 كانون الثاني/ يناير1986، بخذلان مقصود وخيانة صريحة، أو بأنانية العاجز الذي تمنى أن لو انتهى الأمرُ بهزيمة الجميع، بما يسمح بالعبور الآمن فوق حقول ألغام السلطة التي تسلموها في صنعاء واكتفوا بالتصرف الشخصي بعوائدها المالية دون إبداء أي استعداد للتصرف كقادة وطنيين.
 
يعيدنا شهر أيلول/ سبتمبر إلى جوهر الأزمة والحرب في اليمن، فالحرب لا يمكن أن تُحسم بتسوية تقليدية تعيد وضع السلطة بين يدي الجميع، لأن الديمقراطية وصندوق الاقتراع وإرادة الناخبين، لن تكون ضمن مصفوفة الحل ولا وسيلته لبلوغ مرحلة السلام، ما دام أن هذه التسوية ستتعاطى مع الحقائق العسكرية والسياسية الراهنة كنتائج مقبولة للحرب، لأن من شأن ذلك هيمنة المشروع الطائفي لجماعة الحوثي الذي لا يقبل القسمة مع أحد، وهي وصفة كارثية ومدخلاً لدورات من العنف، لا يمكن أن يبقي معها جيران اليمن سعداءَ بسيل الدماء دون أن تكتسح آثارُها حدودَهم، وما أيسر ذلك.
 
(عربي 21)
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر