مشوار في باص مفخخ


يعقوب العتواني

  "والله العظيم لولا الجهال حقي اننا بدهف الباص واقضيها مجنانة بالشوارع والا شحاتة". هتف رافعاً ذراعيه للأعلى، قبل أن يعاود القبض على "السكان" ومتابعة القيادة، هبوطاً وصعوداً، في حارات مدينة تعز..
 
ضحكنا جميعاً باقتضاب، واعتقدنا أن هذه النفثة المُفتعلة من الإحباط، ليست سوى واحدة من حيل السواقين لقطع الطريق أمام أي مساومة محتملة من الركاب في سبيل خفض أجرة المشوار..
 
كنا أربعة ركاب، موزعين على الكراسي الثلاثة داخل الباص في ظهيرة قائظة؛ أنا في زاوية المقعد الأخير، وأمامي امرأة عجوز تفتش في أغراضها التي اشترتها من السوق بفزع من تعرض للسرقة، وجوارها مراهقة عائدة من معهد لتعليم اللغة الإنجليزية جلست متجمدة تضم الكتاب إلى صدرها في خجل ظاهر، وأمامهما رجل في الخمسينات من عمره، انحنى في مقعده قليلاً إلى الأمام، واضعاً ذقنه على العكاز الممدة بين ساقيه، مستغنياً عن إسناد الكرسي.
 
في منتصف الطريق صعد شاب وسيم إلى الكرسي جوار السائق، حاملاً طفلاً بين الخامسة والسابعة. قبل أن يجلس الراكب الخامس تماماً، والصغير في حجره، التفت السائق إلى الطفل:
 
  - "الله لو تدري يا ابني على مستقبل قدامك.. أوسخ من هذي الطريق والله!".
 
-"اتقي الله يا رجال!" هتف الرجل الخمسيني والمرأة العجوز بصوت واحد. تابعت العجوز احتجاجها: 
 
- "أيش عرّفك أيش كاتب الله للبلاد والعباد؟ يقدر الباري يقلب الحال بساعة".
 
 - "إلا عارف يا خالة،" رد السائق بعصبية، مضيفا: "هوذا انتي وصلتي للثمانين وهذا هو حال البلاد لا تغير ولا شي.. ليش تتحملي بذمتك وتركني الجاهل داخل بلاد ملعونة.. ستين لعنة؟".
 
 اختارت العجوز إنهاء الحوار، وقد شعرت- كما شعر الجميع- أنها أمام إنسان يطحنه السخط واليأس. ذهبت تستغفر في وجل، مشيحةً بوجهها نحو نافذة الباص، الذي كان يمر جوار مجموعة من براميل القمامة. كان حشد من الأطفال، من ذوي البشرة السوداء، يتحلقون حول البراميل من جميع الاتجاهات وينبشون، بتركيز كبير، في الأكياس القذرة، منافسين الذباب.
 
  لم يدم الصمت طويلا؛ قام السائق بتشغيل الإم بي ثري، ليصدح أبوبكر سالم: "سرقت النوم من داخل عيووووني". رفع السائق عقيرته بالغناء رفقة الفنان، ولكن يا للصوت! وكأنه كان يتعمد أن يغني بأسوأ ما يمكن أن يصدر عن حنجرته. كان يجعر كلمة "عيوني" في الأغنية، ويمدها أطول مما يستطيع الفنان أبو بكر سالم. وكأن عينيه تُقتلع اقتلاعاً من محجريهما!  كان يعذب نفسه في الحقيقة، ويحاول تعذيب الآخرين معه، أو هذا ما شعرتُ به، وربما الجميع شعر به مثلي أيضا..
 
فجأة أدار السائق وجهه نحونا، على نحو خاطف، وقد ألهمته الأغنية ثغرةً جديدة لافتتاح الحوار المفخخ باليأس والكفر:
 
 -  "أمانة تقدروا ترقدوا هذي الأيام؟ ". وقبل أن يجيبه أحد، تابع بنبرة تكتسحها الحسرة، رغم أنه كان يتكلف الابتسام: "أنا والله ما اقدر اغمض عين".
 
 - "يا بني أنت ناقص إيمان". ردت عليه العجوز، وقد أعيتها محاولات التجاهل.
 
- "الإيمان مليان يا خالة.. فل؛ دبة الغاز هي الفاضي".
 
- "وخزان الماء". هتفتُ أنا من الخلف، مسانداً الرجل بعد أن أحسستُ أن أفضل ما يمكن فعله هو مساعدته على إفراغ سخطه. أرسل قهقهة مدوية، ونظر إلى المرآة أمامه ليمنحني نظرة امتنان، ثم مضى مختنقاً بالضحك:
 
- "وبالدي الدقيق، وكيس السكر، وعلبة الحليب حق الجاهل، والله كله فاضي.. كله فاضي!"
 
 فجأة افترسه صمت رهيب. رأسه الذي كان يرتعش مع الضحك، قبل لحظات، سكن تماما. بدى وكأن كل هذه الأشياء الفارغة في منزله قد ابتلعته. بعد دقيقة، بدأ يغزل شعره بإحدى أصابعه، ويحدق في الطريق المليء بالحفر أمامه، لكن لا أحد منا كان يشك في أنه لا يرى شيئا..!
 
"على جنب"، صاحت الطالبة متأهبةً للنزول، لكن صوتها لم يبلغ غايته. كررت: "على جنب"، مرة أخرى ولا جدوى. تدخل الراكب الذي في الأمام، وعندها فقط عاد السائق إلينا، شاحباً مع مسحة ارتباك اعتذارية تكسو ملامحه.
 
قبل أن يتحرك الباص مجدداً، تعالى صوت آخر: "عندك يا سواق". تفاجأتُ أنه صوتي أنا.. ولا إرادياً، وجدتني أتسلل خارج الباص وأدفع الأجرة لأتابع طريقي على الأقدام، ركضاً خلف نفسي المذعورة.
 

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

تعليقات

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر