في الجغرافيا الخاضعة للسلطة الشرعية في جنوب وشرق اليمن، يتكرسُ الفشل السياسي والاقتصادي، ويحتدمُ الصراعُ العبثي مؤذناً بمرحلة جديدةٍ، تدفع بهذه الجغرافيا، كما جرت العادة، خطواتٍ جديدةً بعيداً عن الدولة اليمنية، على وقع صراع نفوذ حقيقي بين الدولتين الرئيستين للتحالف العربي، الذي أنهى تدخلاً عسكرياً طويلاً وتفرَّغَ لإنجاز تسوية سياسية سلمية مزعومة، تتأسس على الترضيات والتنازلات وعلى قدر كبير من الأنانية والانتهازية والغدر.
 
فجأة ودون مقدمات نشأ خلافٌ من طرفٍ واحدٍ هو المجلس الانتقالي الجنوبي، يتمحور بصفة رئيسية حول منصب رئيس الوزراء، الذي تدفع الإمارات على ما يبدو باتجاه حيازته لصالح المشروع الانفصالي، والاستحواذ عليه وعلى مزاياه السيادية بشكل مباشر، بما يسمح بإدارة الموارد والمناصب والمسؤوليات، وفق أولويات المشروع الانفصالي وبعيداً جداً عن أولويات الدولة اليمنية واستحقاقاتها الاستراتيجية.
 
يأتي ذلك في ظل ظروفٍ بالغة السوء تمر بها السلطة الشرعية ومعسكرها، أبرز ملامحه اهتراء وتفكك وتشظي مجلس القيادة الرئاسي، وتعطل مجلس النواب ومجلس الشورى (يتمتع رغم صفته الاستشارية، بصلاحيات برلمانية مشتركة مع مجلس النواب)، وانفصال المستوى القيادي الأعلى للقوات المسلحة عن الجسم الميداني الذي توزع بين جيش وطني مغدور ومليشيات تتمركز حول مشاريع دون وطنية، وتوقف أنشطة إنتاج وتصدير النفط، وانزياح الحركة التجارية بنحو ثمانين في المائة من عوائدها المالية نحو الموانئ التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، ضمن خطوات بناء الثقة التي تستمر في انتزاع نفوذ الدولة وسلطاتها وصلاحياتها باليد السعودية العليا المهيمنة على السلطة الشرعية ومركزها الدستوري.
 
يكاد النزاع الذي افتعله المجلس الانتقالي الجنوبي بإيعاز من أبو ظبي، أن يؤسس لمسار أزمة تبدو الرياض جاهزة لتأمين آلية سياسية تضمن تخريجةً مناسبةً له، قد تشمل فيما تشمل منح المجلس الانتقالي حق الاستحواذ على منصب رئاسة الحكومة، ليبدو استحقاقاً انفصالياً بامتياز، يما يعني تحلل هذا المركز السلطوي المحوري من أي التزامات تجاه الدولة اليمنية ومعاركها السياسية والعسكرية والاقتصادية لاستعادة الدولة، والحفاظ على وحدتها ونظامها الجمهوري.
 
من بين أكثر التصريحات ذات المغزى والدلالة، تلك التي أدلى بها أمين التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، المحامي عبد الله نعمان، القريب من التحالف، والتي اتهم فيها السعودية بالتخلي عن مجلس القيادة الرئاسي، بعد أن عمل حزبه بالتنسيق مع الحزب الاشتراكي اليمني (يساري) طيلة الفترة الماضية على خوض معركة تعطيل جانبية، وتبني موقفٍ متشدد تجاه قيادة الشرعية التي كان يمثلها حتى نيسان/ أبريل 2022 الرئيس عبد ربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر. وهذا الأخير على وجه التحديد كان يُتهم مع حزب التجمع اليمني للإصلاح (إسلامي) بالاستحواذ على الشرعية وتهميش بقية المكونات السياسية المنضوية في إطارها.
 
شارك نعمان ممثلاً عن حزبه الناصري، بحماس في المشاورات السياسية الصورية التي عُقدتْ في الرياض أوائل نيسان/ أبريل، وانتهت بالنقل القسري للسلطة من الرئيس هادي إلى مجلس قيادة رئاسي يضم تمثيلاً متعدداً، لمكونات أُنتجت في الأصل لتشغل الفراغ الناتج عن الهدم الممنهج للشرعية وسلطاتها وأدواتها السياسية والعسكرية. وهو اليوم يتوقع اندلاع صراع مسلح في جنوب البلاد بين التشكيلات المسلحة، بدافع من "صراع النفوذ بين السعودية والإمارات" على حد تعبيره.

هذا النوع من التصريحات، يكشف عن حالة إحباط شديدة داخل المعسكر، الذي لطالما راهن على إمكانية نجاح مجلس القيادة الرئاسي، لمجرد أن السلطة الشرعية لم تعد تمثل مجالاً مفترضاً لنفوذ "حزب الإصلاح"، وهو الهدف الذي تشاركه الجميع تقريباً بمن فيهم الحوثيون على مدى سنوات الأزمة والحرب، لمنح المزيد من المشروعية لهذه الحرب بصفتها وسيلة ضرورية لإعادة رسم المشهد اليمني؛ وفقاً للطموحات والتطلعات السياسية للقوى والجماعات المناهضة لوحدة اليمن ونظامه الجمهوري وهويته العربية الإسلامية الجامعة المتحررة من النزعات الطائفية المقيتة.
 
تبدو السلطة الشرعية وفقاً لهذه المتغيرات في هامش التأثير الوطني، ليست إلا قلما يتهيأ للإمضاء على الإجراء الأخير، قبل أن يوضع في المتحف، إذ تفتقد اليوم بشكل كامل للقدرة على الإمساك بالخيارات المتاحة، مكبلةً بالارتهان المخزي لدولتي التحالف، وهو أمر يحرم اليمنيين من حدوث التحول المفترض والملحّ في مسار الأزمة، بما يقتضيه من إمساك بزمام القيادة المستقلة، التي تغير السردية الحالية وتقلل من تأثير الفاعلين الإقليميين، وتمكن الشعب اليمني وقواه من قيادة معركة لا تستهدف النصر فحسب؛ ولكنها تختبر قدرتهم على تحمل عبء الحرب وتكاليفها وصولاً إلى تحقيق النصر على المليشيات والجماعات المتخادمة مع الخارج.


*نقلا من عربي 21

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر