8 بالمائة من سكانها قُتلوا أو فُقدوا.. فيضانات درنة الليبية الأسوأ في القرن الـ21

ثمانية في المائة من سكان مدينة درنة الليبية قُتلوا أو فُقدوا في الفيضانات التي سبّبتها العاصفة دانيال، في حين أنّ ربع أحيائها مُسح من الخريطة، وذلك في معدّل غير مسبوق، لا مغاربياً ولا عربياً، ولا حتى عالمياً في القرن الواحد والعشرين.
 
ويكشف هذا الرقم حجم الكارثة التي وقعت في درنة شمال شرقيّ ليبيا (1350 كيلومتراً شرق طرابلس)، والتي فاقت مأساة فيضانات باب الوادي بالجزائر في عام 2001، التي كانت الأكبر مغاربياً منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، بل وحتى فيضانات الهند في عام 2013 التي توفي فيها آلاف البشر.
 
والعاصفة دانيال التي ضربت شرقيّ ليبيا في العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري، سبّبت مقتل الآلاف، علماً أنّ الأرقام تختلف باختلاف الجهات التي تصدرها، وسط تقديرات ببلوغ عدد الضحايا من القتلى 20 ألفاً. كذلك، فُقد نحو 10 آلاف آخرين في مدينة يُقدَّر عدد سكانها بنحو 200 ألف نسمة، أمّا عدد الذين هُجّروا منها فقدّرته المنظمة الدولية للهجرة بنحو 30 ألفاً.
 
وتكشف هذه الأرقام حجم الكارثة الإنسانية التي أصابت سكّان درنة.
 

20 ضعف فيضانات الجزائر

وتكاد فيضانات باب الوادي في الجزائر العاصمة، التي وقعت في عام 2001، لا تُقارَن بحجم كارثة درنة. ففي الجزائر، أدت الكارثة الطبيعية إلى مصرع نحو 800 شخص، في مدينة يُقدَّر عدد سكانها بنحو أربعة ملايين، وقد وُصف ذلك بأنّه المأساة الكبرى في المنطقة المغاربية من جرّاء الفيضانات.
 
وعلى الرغم من أنّ الجزائريين ما زالوا يتذكّرون حتى اليوم فيضانات باب الوادي بكثير من الأسى والحزن، ويردّد أنصار فرق كرة القدم بالعاصمة "باب الواد الشهداء"، فإنّ عدد القتلى والمفقودين في درنة يوازي 20 ضعف الضحايا الذين سقطوا في فيضانات باب الوادي، على الرغم من أنّ عدد سكان العاصمة الجزائرية يعادل نحو 20 ضعف عدد سكان درنة.
 
وتقدّم هذه الأرقام صورة مقرّبة عن حجم كارثة درنة التي يصعب على كثيرين تخيّلها أو استيعاب حجمها.
 

الأسوأ في القرن 21

وإذا خرجنا من المنطقة المغاربية ووديانها الموسمية، وتوجّهنا إلى شبه الجزيرة الهندية وأنهارها الغزيرة وكثافة سكانها العالية، وهي المشهورة بفيضاناتها المدمّرة، نجد أنّ العاصفة دانيال التي ضربت درنة لم تكن أقلّ شأناً من الأعاصير الآسيوية.
 
ففي عام 2013، ضربت فيضانات ولاية أوتارانتشال شماليّ الهند، أدّت إلى مقتل خمسة آلاف و700 شخص، وهو رقم على ضخامته أقلّ بقليل من العدد الأوّلي لوفيات فيضانات درنة.
 
ويُذكر أنّ عدد سكان أوتارانتشال كان يتجاوز حينها 10 ملايين نسمة، أي 50 ضعف عدد سكان درنة، الأمر الذي يعكس حجم مأساة المدينة الليبية "الصغيرة".
 
كذلك فإنّ فيضانات باكستان الشهيرة في عام 2022 التي خلّفت 1128 قتيلاً، ليست بالتأكيد في حجم ما وقع في درنة، على الرغم من الدمار الكبير الذي سبّبته البنى التحية واقتصاد البلد. والأمر مماثل بالنسبة إلى فيضانات عام 2010 في باكستان، التي خلّفت 1600 قتيل.
 
ومن خلال رصد وكالة الأناضول أسوأ الفيضانات دماراً في القرن الواحد والعشرين، لجهة عدد القتلى ومعدّلهم إلى نسبة السكان، لم تجد ما هو أسوأ من فيضانات درنة، علماً أنّ الحصيلة ما زالت أولية ومرشّحة للارتفاع في ظلّ عدد المفقودين الكبير وكذلك عدد المصابين.
 
وتبقى فيضانات يانغتسي بالصين في عام 1931 الأسوأ عبر التاريخ، إذ خلّفت ما بين مليونَين وأربعة ملايين قتيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ووقع ذلك بعدما فاضت مياه نهر يانغتسي، ثالث أكبر أنهر العالم، وغمرت مزارع الأرزّ وأفسدتها، الأمر الذي سبّب مجاعة وأوبئة بسبب انتشار الجثث وتحلّلها على مدى أشهر تلت الفيضانات.
 
من هنا، فإنّ درنة في حاجة إلى مساعدات محلية ودولية لما بعد الفيضانات، من أجل انتشال الجثث ودفنها قبل تحلّلها وانتشار الأوبئة، وكذلك توفير الغذاء والمأوى والعلاج للمصابين والنازحين.
 

الأضخم في تاريخ المدينة

لم يورد بعد أيّ مصدر أنّ مدينة درنة سبق لها أنّ تعرّضت لخسائر بشرية ومادية بهذا الحجم في كارثة طبيعية ليوم واحد في خلال الأعوام المائة الأخيرة، على الرغم من أنّ للمدينة تاريخاً طويلاً مع الفيضانات.
 
ودرنة، المحاصرة جغرافياً بين تلال الجبل الأخضر والبحر الأبيض المتوسط ويشقّها وادي درنة إلى نصفَين، شهدت فيضانات عنيفة في عام 1941، في خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، عندما كانت حينها تحت سيطرة القوات الألمانية، لكنّ المصادر لم تشر إلى أعداد القتلى، بل تتوافر روايات عن جرف السيول دبابات للنازيين.
 
وفي عام 1959، بعد ثمانية أعوام من استقلال ليبيا، شهدت درنة فيضانات عنيفة للوادي الذي حمل اسمها، خلّفت مئات القتلى والجرحى، وفقاً لما نقله سابقاً مراسل وكالة الأناضول في ليبيا عن المؤرّخ فرج داود الدرناوي.
 
ولم تستسلم درنة لفيضانات الوادي الذي حمل معه الحياة لأعوام طويلة، لكنّه ظلّ يباغتها بسيول مميتة. فشيّدت في عام 1961 سداً ركامياً متوسطاً بارتفاع 40 متراً يحجز مياه الفيضانات، وكان ذلك في العهد الملكي (1951-1969)، وقد ساهم السدّ في حماية المدينة من فيضانات عامَي 1968 و1969.
 
وفي عهد الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي (1969-2011) أُجريت صيانة للسدّ في عام 1977، ثمّ أعيدت صيانته في عام 1986، وشُيّد سدّ صغير آخر على الوادي لتعزيز حماية المدينة من الفيضانات.
 
وكما شهدت بداية حكم القذافي فيضانات، اختتمت سنته الأخيرة بفيضانات عام 2011، التي لم تكن مدمّرة. فقد حمى السدّان المدينة، وخفّفا من وطأة السيول التي تدفقت من الوديان الصغيرة النازلة من أعلى الجبل الأخضر وتلاله العالية لتحتشد في وادي درنة.
 
 
العزلة والحروب

بعد سقوط القذافي، واجهت درنة عزلة سياسية وتنموية، بعد أن سيطرت عليها جماعات متشدّدة عدّة لم تعترف بأيّ حكومة، سواء في الشرق أو الغرب، الأمر الذي زاد عزلتها.
 
من جهته، حاول تنظيم داعش أن يستولي على المدينة ما بين عامَي 2014 و2015، لكنّه جُوبه بتحالف لمجموعات مسلّحة في المدينة، توحّدت تحت لواء "مجلس شورى مجاهدي درنة" الذي تمكّن من إلحاق الهزيمة بالتنظيم. لكنّه بقي معزولاً ومحاصراً في منطقة الجبل الغربي بين مدينتَي طبرق (مقرّ مجلس النواب) والبيضاء (مقرّ الحكومة المؤقتة) الخاضعتَين لقوات الشرق بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
 
وبعد سقوط مدينة بنغازي (عاصمة إقليم برقة) في يد قوات حفتر، بعد نحو ثلاث سنوات من القتال (2016-2014) ضدّ مجلس شورى ثوّار بنغازي، تفرّغت القوات لقتال مجلس شورى مجاهدي درنة.
 
وفرضت قوات حفتر حصاراً على درنة منذ عام 2016، وتمكّنت من إسقاط المدينة في عام 2018، بعدما خاضت حرب شوارع استخدم فيها الطيران والأسلحة الثقيلة. وقد خلف القتال دماراً كبيراً في المدينة، سبقه قصف جوي للطيران المصري في عام 2015.
 
ومن غير المستبعد أن يكون إهمال المدينة، التي سبق لها أن كانت معقلاً للمجموعات المسلحة المناوئة للقذافي ثمّ لقوات حفتر، وعدم صيانة سدَّيها ومنشآتها وتجديد بناياتها القديمة، بالإضافة إلى المعارك والحروب التي شهدتها ما بين عامَي 2015 و2018، من الأسباب التي جعلت حصيلة ضحايا العاصفة دانيال وما نجم عنها من فيضانات، بهذه الضخامة.
 
ودرنة، على الرغم من أنّها مدينة صغيرة مقارنة بمدن مليونية، تحمّلت وحدها عبء هذه الفيضانات الأسوأ عالمياً منذ عام 2000، الأمر الذي يتطلّب برنامجاً عاجلاً، ليس فقط لاستيعاب المأساة، بل لإعادة تشييد المدينة بعيداً عن مجرى النهر، إلى حين بناء سدّ أو سدود متينة تحمي المدينة من أيّ كارثة طبيعية.
 

(الأناضول)

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر