كيف صمدت تجربة بنكيران وحيدة في خريطة حكومات "ما بعد الربيع العربي"؟

مرت خمس سنوات على هبوب رياح "الربيع" في العالم العربي، الذي جاء بالإسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس والمغرب. خرجت حكومات "الإخوان" في مصر وتقريبا "النهضة" في تونس، وبقي حزب العدالة والتنمية المغربي، على رأس حكومة بلاده إلى نهاية ولايتها. ومع حلول موعد الانتخابات البرلمانية في 7 أكتوبر الجاري، يطرح السؤال حول "الوصفة" التي بموجبها استطاعت "تجربة عبد الإله بنكيران" أن تكمل ولايتها.

 

"من كان يريد رئيس حكومة يتصادم مع الملك فليبحث له عن رجل غيري"

 

في كلمة له، قبل أيام في مهرجان خطابي لافتتاح الحملة الانتخابية لانتخابات البرلمان المقررة الجمعة المقبلة، نجد بعضا من "سر" استمرار حكومة العدالة والتنمية. فقد خاطب بنكيران الحاضرين في المهرجان، وعبرهم، من يهمه الأمر قائلا "نحن في هذه الخمس سنوات دبرنا علاقتنا مع المؤسسة الملكية بمنطق التعاون والود بعيدا عن منطق المنازعة، الذي كان سائدا في أوقات معينة من تاريخ المغرب، ونجحنا في ذلك".

 

وكلما سئل بنكيران عن حدود صلاحياته الدستورية كرئيس حكومة في تقاطعها مع صلاحيات الملك، واتهامه من بعض أطراف المعارضة بالتفريط في صلاحياته، كان جواب بنكيران الذي يلخص منهجه في تدبير العلاقة مع الملك "من كان يريد رئيس حكومة يتصادم مع الملك فليبحث له عن رجل غيري"، ويضيف في أكثر من مناسبة بجملة أخرى أثيرة على لسانه، تقول "إن أصل تميز المغرب هو التوافق بين الملك والشعب، وأن المغاربة يصنعون المعجزات بهذه التوافق ولا يصنعون شيئا بغيره".

 

ولم يكن بنكيران ليشغل باله كثيرا بشكليات النص الدستوري، فهو بحسه السياسي يعرف أن السياسة تمارس في "مساحة رمادية" أكبر من الدستور.

 

وظل بنكيران "يتوراى" حين يحس أن الموقف يقتضي حضور الملك فقط، معللا ذلك بأنه لم يأتي لمزاحمة الملك، وأنه "عندما يحضر الملك فهو ينوب عن الجميع". لكنه يملأ المساحات التي يغيب عنها الملك أو ينوب عنه فيها في الداخل والخارج، كما يملأ منصات الخطابة بقدرات تواصلية لافتة.

 

وظل بنكيران وصديقه الوفي الراحل عبد الله بها، وزير الدولة الذي يوصف بكونه النصف الثاني لبنكيران، الذي رحل في 7 من ديسمبر 2014 في حادثة قطار قرب الرباط، يعبران مرارا أن مشروع العدالة والتنمية هو تطبيع العلاقة بين الحركة الإسلامية التي يتحدرون منها والقصر الملكي والدولة، وجعل جزبهم وحركتهم جزء أصيل من فسيفساء النسيج السياسي المغربي لا طارئا عليه.

 

لكنه لا يتواني في الانتقاد الشديد والمزعج أحيانا لما يصفه "التحكم"، في إشارة شبيهة بما يعرف في المشرق العربي بـ"الدولة العميقة"، ويقصد بها مجموعات المصالح النافذة المحتمية بالقرب من السلطة والتي تريد أن "تهيمن" و"تتحكم" في القرار السياسي والاقتصادي بالبلاد، خارج شرعية الانتخابات، حسب من يطلقون هذا الوصف.

 

استمرار عسير

لا يتردد عبد الإله بنكيران، في التذكير، بأن حكومته كانت تتعرض لمحاولة الإسقاط أو "الإرباك"، ناهيك عن ما يعتبره "تشويشا" طال عملها منذ بدايتها وإلى أيامها الأخيرة.

 

فقد كانت الحكومة على وشك انفراط عقدها، في النصف الثاني من 2013، عندما أعلن حزب الاستقلال (محافظ)، الحزب الثاني في الحكومة حينها، انسحابه منها في يونيو/حزيران، بالتزامن مع التطورات على الساحة المصرية والتي أفضت إلى عزل الرئيس محمد مرسي.

 

ساعتها وضع بنكيران وحزب العدالة والتنمية في حرج كبير بعدما لم يعد لهم من إمكانية لتعويض حزب الاستقلال المنسحب غير حزب التجمع الوطني للأحرار الذي وصف أمينه العام صلاح الدين مزوار من طرف قياديين في العدالة والتنمية بـ"الفساد" عندما كان وزيرا للمالية في الحكومة التي سبقت حكومة بنكيران، بل إن زعيمي الحزبين دخلا في ملاسنات كلامية حادة، وكانت العلاقة بينهما أقرب إلى القطيعة منها إلى التحالف، بعدما سارع مزوار غداة الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية في 25 نوفمبر 2011 بالقول إن "التحالف مع العدالة والتنمية خط أحمر".

 

استمر التفاوض بين العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار أكثر من 3 أشهر، ومعها ظل سؤال إمكانية استمرار حكومة بنكيران يتردد باستمرار مع توارد الأخبار حول تعثر هذه المفاوضات إلى أن أثمرت.

 

في أكتوبر 2013 أعلن عن حكومة بنكيران في نسختها الثانية المعدلة، وهو ما اعتبره بنكيران وإخوانه "انتصارا" لهم على من كانوا يسعون إلى رؤيتهم خارج دائرة الحكم على غرار نظرائهم في مصر وتونس، وبطريقة "ناعمة"، بغض النظر عن كل ما قيل حول تحالفهم مع حزب الأحرار. لكن ما اعتبره العدالة والتنمية انتصارا له، لم يمر دون أن يدفع "ضريبة" من صورته، كحزب يمكن أن يتحالف مع من كانوا يصفونهم "رعاة فساد". بل يمكن أن "يضحي" بأحد أبرز قيادييه وأمينه العام السابق سعد الدين العثماني من وزارة الخارجية، وأن يختار هذا الأخير النزول من قيادة الدبلوماسية المغربية، والخروج من قطار الحكومة، لصالح حليفهم الجديد صلاح الدين مزوار الذي أصر على منصب وزير الخارجية بعدما اعترض قياديون من العدالة والتنمية على توليه وزارة المالية لـ"سوابقه" في هذه الوزارة.

 

ولم يكن خروج حزب الاستقلال من الحكومة وحده من كان يهدد بذهابها، بل إن بنكيران نفسه لا يتردد في الكشف أنه فكر أكثر من مرة في الاستقالة من الحكومة.

 

لكن رئيس الحكومة كذلك لا يتردد في ذكر فضل الملك في استمرار حكومته، محذرا من التفريق بين الملك والحكومة، فيقول "إن هناك خرافة كبيرة تريد أن تفرق بين جلالة الملك والحكومة، ففي اليوم الذي يريد الملك أن يفرق بينه وبين الحكومة، سيفارقها وسيقيلها، وهذا من صلاحياته الدستورية".

 

بنكيران مع ذلك وعلى غير المألوف في خطاب من سبقوه لقيادة الحكومة، يقول في آخر تصريحاته الصحفية إن ولاءه للملك وللملكية لا يعني "الانبطاح" حسب تعبيره.

 

حبل المشنقة

"ارفعوا رؤوسكم لأنكم أنقذتهم دولتكم من حبل المشنقة الذي كان يلتف على عنقها شيئا فشيئا وكاد أن يخنقها"، هكذا خاطب بنكيران أعضاء حزبه والمتعاطفين معه في مهرجان افتتاح الحملة الانتخابية الجارية بالبلاد. خطاب ليس جديدا على رئيس الحكومة وإن اختلفت صياغته فقد ظل بنكيران يصرح أنه جاء لـ"الإنقاذ" ولاتخاذ أصعب القرارات، وأكثرها عائدا على استقرار البلاد وماليته العمومية وإن كان لها ضرر على شعبية حزبه.

 

وعندما يتهم باتخاذ قرارات تضر فئات عريضة من المجتمع المغربي وتعمق الأزمة في المغرب، يقول إن "الأزمة هي من جاءت بنا ولسنا نحن من جاء بها"، ويضيف أن القرارات التي اتخذتها حكومته من قبيل رفع الدعم عن المحروقات والرفع من سن المتقاعدين والاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل، والزيادة في أثمنة استهلاك الكهرباء وغيرها من القرارات، التي اعتبرت مضرة بالفقراء ومحدودي الدخل وحتى بالطبقة الوسطى بالمغرب، كان مضطرا لاتخاذها، حتى لو كانت على حساب شعبية حزبه ورصيده الانتخابي، لأنها كان يجب أن تتخذ منذ سنوات، لكن الحكومات السابقة فضلت أن تؤجلها.

 

وظل يعول على "تفهم" المغاربة لمثل هذه القرارات "الصعبة" التي اتخذها لأن من يعارضونه لا يملكون بديلا آخر.

 

كما يعول على ما يصفه بـ"نظافة اليد" التي يعرف بها، ويعتقد أن "حتى لو لم نقم بالمعجزات وبكل ما يجب، لكن لم تمتد أيدينا إلى المال العام".

 

ولا يمل رئيس الحكومة في مداخلاته الإعلامية والجماهيرية الكثيرة من التذكير بما يعتبره "إنجازات" قامت بها حكومته، خصوصا في الجانب الاجتماعي، من قبيل "صندوق التكافل الاجتماعي"، والدعم المالي المباشر للأرامل والأيتام وزيادة منح الطلبة الجامعيين والرفع من معاشات المتقاعدين الأقل من 1000 درهم مغربي، وما يعتبره تحسينا لمناخ الاستثمار الداخلي والخارجي.

 

سياسة بنكيران الاجتماعية هذه ظلت في مرمى نيران النقابات والمعارضة، التي تتهمه بكونه يأتمر بأوامر صندوق النقد الدولي، ودعت في أكثر من مرة إلى إضرابات واعتصامات، كان من بينها إضرابين عامين، لم تشهد البلاد مثلهما قبل أكثر من 20 سنة.

 

لكن مرور الإضراب العام في المغرب في أكتوبر 2014 بدون تسجيل أي حوادث تذكر في البلاد، على خلاف الإضرابات العامة السابقة في 1981 و 1990 التي خلفت سقوط ضحايا إثر تدخل عنيف لقوات الأمن، جعل بنكيران يقول إن "المغرب قطع مع الذكريات الأليمة للإضرابات العامة".

 

الدبلوماسية ملكية

في سياستها الخارجية ظلت حكومة بنكيران تقف خلف الملك، وتعتبر عملها مكملا لما يقوم به الملك في هذا المجال الذي يوصف بكونه "محفوظا" للمؤسسة الملكية. وظل بنكيران وحكومته ينفذان سياسة الملك في هذا المجال، كما ظل بنكيران يوزع خطابات الود على الشركاء التقليديين للمغرب، مثل فرنسا ودول الخليج وغيرهم.

 

وبقي بنكيران وحكومته بعيدا عن كل خطابات السخط التي يحملها الإسلاميون في مصر وتونس وغيرهما لبعض دول الخليج واتهامهم لهم بدعم "الانقلاب" على الربيع العربي ونتائجه، بل ظل يوزع الود لحكومات الخليج ومستثمروه، وهو يعلم أن علاقات المغرب مع الخليج لم تكن يوما رهينة حكومات مهما تباينت أيديولوجيتها، بل إن الكلمة الفصل فيها للملك. ولا يفوته التذكير بأن "المغرب دولة مستقرة وهي ليست مستقرة عبثا بل لأسباب تاريخية وطبيعية، والمغرب يتعامل مع كل الاحداث السياسية بطريقته"، وأن المغرب تعامل مع الربيع العربي بطريقته الخاصة، فيقول "لقد تفاعلنا مع الربيع العربي ومغربناه بطريقتنا، وهكذا جاءنا مزمجرا فسكناه تدريجيا، بعد ذلك أصبح شيئا إيجابيا ووصلنا إلى الحكومة".

 

وعندما عاب عليه أنصاره وخصومه لقاءه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مارس 2015، بمناسبة القمة العربية الـ26، قال بنكيران إنه كان يمثل الملك والدولة المغربية ولم يكن يمثل نفسه أو حزبه، موضحا في لقاء سابق مع شبيبة حزبه، أن "العلاقات الخارجية مجال للسيادة يخضع مباشرة لجلالة الملك والتوجيهات الملكية، والحكومة والبرلمان والمغاربة جميعا هم سند له في ذلك"، وأنه "من الوهم الاعتقاد بغير ذلك في المغرب".

 

"مغربة الإسلام السياسي"

في إحدى تعليقاته، عقب وفاة وزير الدولة عبد الله بها رفيق بنكيران لمدة 40 سنة، قال حسن طارق، البرلماني عن حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض، وأستاذ العلوم السياسة، إن بنكيران و"بها" استطاعا أن "يمغربا فكرة الإسلام السياسي"، لذلك على غير المألوف في الخطاب السياسي للإسلاميين لا يجد بنكيران غضاضة في القول إن حزبه ليس له مشروع مجتمعي وأن مشروعه هو مشروع المجتمع المغربي الذي ارتضاه منذ قرون، وأن على رأس هذه المشروع الإسلام والملكية، وأن منهج حزبه "التعاون لا الصراع" و"الإصلاح لا السلطة".

 

"مشكلتي ليست هل النساء ترتدين ثيابا غير محتشمة أو ترتدين التنورات القصيرة، لكن المشكل في التعليم والصحة، وحوادث المرور وغيرها، لهذا اختارني المغاربة، من أجل حل هذه المشاكل"، يقول بنكيران في إحدى خرجاته الإعلامية الكثيرة، ويضيف مخاطبا أعضاء حزبه في مهرجاناته الانتخابية الأخيرة، إن "المواطنين المغاربة لم يأتوا إلينا ليسألونا عن كوننا ذوي لحى طويلة أو قصيرة أو حليقين بل كانوا يبحثون عن المعقول (المصداقية) ونحن وأعطيناه إياهم"، واصفا نفسه في سياق آخر بأنه "أكثر حداثية من أولئك الذين يسمون أنفسهم حداثيين"، وأنه لا مشكلة له مع الحريات الفردية، التي كثير ما تثير الجدل في المجتمع المغربي.

 

مختلفون وحلفاء

تتشكل حكومة عبد الإله بنكيران من إئتلاف حزبي يضم 4 أحزاب هي العدالة والتنمية الذي يشغل بنكيران، أمينه العام، وحزب التقدم والاشتراكية (يسار)، وحزب الحركة الشعبية (يمين) وحزب التجمع الوطني للأحرار (يمين وسط)، الذي عوض حزب الاستقلال (محافظ) بعد انسحابه من الحكومة في أكتوبر 2014. تحالف ظل ينعت بـ"غير المتجانس" لاختلاف المرجعيات السياسية والإيديولوجية لهذه الأحزاب، خصوصا التحالف بين التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية اللذين قررا الاستمرار في تحالفهما بعد الانتخابات المقبلة سواء في الحكومة أو في المعارضة. لكن أقطاب هذا التحالف يعتبرون أن تحالفهم تم وفق برنامج سياسي أملته ظروف البلاد وليس وفق مرجعيات أيديولوجية.

 

ورغم الانتقادات التي طالت رئيس الحكومة وحزبه بتحالفه مع حزب التجمع الوطني للأحرار بعد ملاسنات قوية بينهما، وبروز اختلافات كبرى وعلنية بينهما حتى داخل الحكومة، وهو ما اعتبر "غير طبيعي" في حكومة المفروض أن "لا تنشر غسيلها" للعموم، فإن بنكيران برر هذا التحالف بقوله "لم نشأ أن نعطي عن بلادنا صورة البلد غير المستقر، فتحالفنا مع كل من كان ممكنا أن نتحالف معه".

 

"الإصلاح في ظل الاستقرار"

إبان الحراك المغربي في 2011 الذي قادته حركة 20 فبراير، عارض بنكيران مشاركة حزبه في احتجاجات الحركة، وعاب على قياديين بالحزب مشاركتهم فيها، وخرج ليقول إنه "ضد المغامرة باستقرار النظام"، لكن في الوقت نفسه مع الإصلاحات التي ترفعها الحركة، ورفع الحزب شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار". عدل الدستور المغربي في يوليوز 2011 وجرت انتخابات برلمانية سابقة لآوانها في 25 نوفمبر من السنة ذاتها، حملت حزب العدالة والتنمية لقيادة الحكومة بالمغرب لأول مرة في تاريخه.

 

استمرت الحكومة التي رفعت شعارات "الإصلاح في ظل الاستقرار" ومحاربة الفساد واقتصاد الريع، إلى نهاية ولايتها، وسيعود المغاربة الناخبون بعد خمس سنوات إلى صناديق الاقتراع في 7 أكتوبر للحكم على "تجربة بنكيران".

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر