ما هو الحبّ؟


أمجد ناصر

بوحيٍ من شذرات رولان بارت في العشق، أعود إلى هذا "الموضوع" الأبدي/ أو لأقل الغريزة الأبدية التي لا تحول ولا تزول إلا بزوال الكائن الحي. بعد غد "عيد العشاق". وهذه مناسبة، في عالم اليوم، أقرب إلى الكسب منها إلى الاحتفاء بأحد أهم أسباب الوجود.
 
بل سبب الوجود الأول. فما هي قصة آدم وحواء إن لم تكن تلك الجاذبية، التي لا مفرّ منها، عندما يكون هناك رجل وامرأة في لحظة تماسّ قصوى؟ لا تفاحة. ولا من يحزنون. حتى لو كانت "التفاحة" هي السبب. فهي تلك الفاكهة "المحرّمة" التي لا تنمو في شجرة. بل في الجسد البشري.
 
لكن ما هو الحب؟ هل يحتاج تعريفاً؟ بارت يعطي أهميةً، أو ربما أولوية، للكتابة، دليلاً، إلى الحب. أو الإقامة في الحب. يقول: هناك دائماً كتابٌ في موضعٍ ما في الكائن البشري، أياً كانت الثقافة التي ينتمي إليها، وهذا الكتاب يفرض العاطفة على اللغة، ويفرض على العاطفة أن تكون لغة. واستمراراً مع بارت "فليس ضرورياً أن يكون هذا الكتاب محدّداً ومسمَّى، بوسعه أن ينتمي إلى كتاب اللغة الكبير مجهول المؤلف، كتاب الآخر، وهو كتابٌ لا يمكن رصده.
 
 ولكن تطفو منه أحياناً مقاطع أكثر وضوحاً: الأغاني الشعبية". هكذا يترافق خفق القلوب مع الكلمة. مع موسيقى. مع إيقاع. ولكن مع اللغة أكثر. فذلك "الكتاب الذي يفرض العاطفة على اللغة، ويفرض على العاطفة أن تكون لغة"، لا اسم له. ليست قصة مجنون ليلى، ولا شعره، ولا هو "طوق الحمامة"، ولا "مجنون إلزا". هذا يعني أنه أكثر شيوعاً، وغفلةً، مما نظن. مع ذلك نسعى، دائماً، إلى تحديد ما هو غير محدّد، وتعيين ما هو غير قابل للتعيين والحصر.
 
تعرّف أنييس نن الحب بالقول: أي شيء هو إن لم يكن قبول الآخر! لكن هل هذا الحب الذي نحن بصدده الآن؟ لست متأكداً. لأن الحب الذي يحتفل به "عيد العشاق" شيء آخر. أخشى أنني سأعاكس نن. فهذا الحب هو احتفالٌ بالذات وليس بالآخر.
 
فعندما نحب، الحب الفردي، الغريزي، الذي يرمينا به سهم "كيوبيد"، فنحن نحب أنفسنا وليس الآخر. أو ربما تتحد فيه الذات بـ "الآخر"، على نحوٍ لا انفصام لعراه. في لحظة الحب تنتفي الذات وينتفى الآخر، ويصبحان شيئاً آخر، خارج الذات والآخر.
 
ولعل هذا حبٌّ يقرّبنا مما يسميه المتصوفة: الحب الإلهي. لكنني لا أتحدث عن هذا. بل عن قطبي الحياة البشرية: المرأة والرجل. لا ذات ولا آخر هنا في لحظة الحب. يقول العاشق/ العاشقة في هذه اللحظة: أنا أنت، أنت أنا. لا وجود لي من دونك. لا أحيا إلا بك! وهذا فعلٌ غير إرادي. لا نقرّر أن نحب، سلفاً. لذلك نقول في العربية/ وكذلك الأمر بالإنكليزية، وربما غيرهما من اللغات: وقعت في الحب. كأنه هوّة. كأنه سقوط من الاستقامة/ من الوعي، إلى اللاوعي. وهذا الوقوع لا نقرّره. إنه، كما يقول ستاندال: مثل الحمّى التي تأتي وتروح، من تلقاء نفسها، بلا إرادة منا. بل باستقلال عنا. ولكنه إذا كان كالحمّى، بحسب ستندال، فهو مؤقت. زمنه زمن الحمّى نفسها. ولكن كم تدوم حمّى الحب؟ ما هو زمنها؟ لا يجيب ستاندال.
 
 ولا يزيدنا تعريف سوزان سونتاغ الحب إلا بلبلة. فهي تقول إن لا علاقة بشرية أكثر غموضاً من الحب. وهذا يعني أنه عصيٌّ على التعريف والقبض على جوهره الأثيري. إنه رجراج. هيولي. غامض. بيد إن كنا لا نستطيع القبض على "مفهوم" الحب، فإننا نعرف مفعوله. إنه تلك الخفّة المطلقة التي تسكن الأعماق. ذلك الإكسير الذي يحتل مجرى الدم.
 
وعندما نتحدّث عن الدم، فهذا يعني أننا نتحدث عن القلب الذي أوكلت إليه البشرية "مهمة" الحب. لا عضو آخر، في جسد الإنسان، يُعطى هذا الشرف. القلب هو "آلة الحب" في ثقافات العالم كلها، على الأغلب. وإن كانت العربية تشرك فيه الكبد. وهاتان مضغتان منفردتان في جسد الإنسان. لا تثنية لهما. ليسا الرئتين. ولا الكليتين. الحب منفرد. لا تثنية فيه و"آلته" منفردة كذلك.
 
ينقسم القلب على اثنين لا يعتما أن يصبحا واحداً في "حمّى" الحب، لكنه لا ينقسم على ثلاثة. هذا غير ممكن. لأن الحب لا يقبل التثليث. لا يتّسع الحب لثلاثة قلوب.
 

*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر