الوظيفة الرئيسية لأحزاب السلطة هي ربط النظام السياسي بالبيروقراطيّة والمجتمع، وتحويل التنظيم الحزبي إلى قناة قسريّة وحيدة للنفاذ إلى جهاز الدولة.
 
وباستثناء هذه الوظيفة، ثمّة فروق هامة بين التجارب الحزبيّة السلطويّة في الأقطار العربيّة، ويمكن التمييز بين تجربتين ميّزتا مرحلة الحرب الباردة عربيًا: الأحزاب السلطوية الأيديولوجيّة مثل الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي، والأحزاب السلطوية المتمركزة حول الرئيس مثل الحزب الوطني في مصر.
 
مسار تاريخي
وفي الفترة التاريخية من 1982 إلى 1990 كان حزب المؤتمر الشعبي العام -بوصفه حزبا للسلطة- يتأرجح بين التجربتين. ونختلف مع من يشيرون إلى غياب تامّ للخطاب الإيديولوجي عند حزب المؤتمر، فهذا غير دقيق على الأقل في مرحلة التأسيس، كما أن نفي وجود تيّارات وأجنحة في الأحزاب السلطوية المشابهة للمؤتمر يحتاج بعض الفحص.
 
علينا أولًا أن نوضح أن أي تكتل سياسي يدير دولة لا بد من أن تنشأ فيه تيارات وأجنحة، وليس ضروريا أن تكون اختلافاتها أيديولوجيّة حتى في الأحزاب المؤدلجة؛ فقد يكون موضع الخلاف مصالح التيّار وقادته ومن يمثلونه.
 
وفي تاريخ الأحزاب السلطوية العربيّة عمومًا توجد محطاتٌ تُظهر بجلاء طغيان خلافات جهويّة وفئويّة وأحيانًا شخصيّة بحتة. كما قد تنشأ في أحزاب سلطوية تتمحور حول شخص الرئيس تياراتٌ تكون الاختلافات بينها ذات جانب أيديولوجي غائر، وليس شخصيا فحسب.
 
وبالعودة إلى حالة حزب المؤتمر سنجد تمايزات ومحطات مهمة تسترعي الانتباه؛ فرغم أن دعاية النظام في مطلع الثمانينيّات سوّقت المؤتمر باعتباره بوتقة تصهر الأيديولوجيّات السائدة حينها، فإننا نجد في وثيقته النظريّة التأسيسيّة -وهي "الميثاق الوطني"- تَأثيرا واضحًا للتيّار الإسلامي، سواء في الباب الأول من الميثاق "الإسلام عقيدة وشريعة" أو في ثنايا باقي أبوابه وفصوله.
 
وهذا أمرٌ مفهوم ومتوقع نظرًا للسياقين الداخلي والإقليمي/الدولي؛ فاليمن الشمالي -خاصة مع صعود صالح إلى الحُكم- أضحى حليفًا مهمًا للسعوديّة والولايات المتحدة في الحرب الباردة.
 
هذا بالإضافة إلى أن الإخوان المسلمين كانوا في صلب الدولة الجمهوريّة اليمنيّة بعد ثورة سبتمبر/أيلول 1962، وازداد نفوذهم بعد انقلاب نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وكان التيّار الإسلامي هو الأقوى في مؤسسات الدولة وخاصة في قطاعيْ الأمن والتعليم.
 
هذا على مستوى التأسيس النظري، أما على مستوى القيادة الحزبيّة فقد كان ثمة قِطَاعٌ تكنوقراطي هو الأبرز والمدعوم من قبل سلطة صالح في بدايات عهده، وكانت رموز هذا القطاع شابة يافعة حين اندلعت ثورة 1962.
 
وقد تميّزت هذه الفترة بالانحياز إلى الجمهوريّة (وهذا هو بُعدها الأيديولوجي الأوضح)، وبالتحصيل الأكاديمي الجيّد من الجامعات العربيّة والغربيّة نتيجة انحدار أغلبها من طبقة الوجهاء والقضاة في فترة المملكة المتوكليّة، وتم الاعتماد عليها في إدارة البلد في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي.
 
وحين جاء علي عبد الله صالح إلى الحكم اعتمد أيضًا على هذا القطاع في إدارة البيروقراطيّة وفي تأسيس حزب المؤتمر، وأهم رموزه عبد الكريم الإرياني وعبد العزيز عبد الغني وعبد السلام العنسي وأحمد الأصبحي.
 
بعد انتهاء الحرب الباردة وقيام الوحدة اليمنيّة عام 1990، وإعلان التعددية الحزبية على إثرها وبدء العمليّة الديمقراطيّة الانتخابيّة؛ انتهى الدور الأيديولوجي الضبابي للمؤتمر وأضحى حزبًا سلطويًا صرفًا، خاصة أن الخطاب الإسلامي السائد في وثائق الحزب أصبح له مؤسسات حزبيّة وسياسيّة تمثله، وعلى رأسها التجمع اليمني للإصلاح.
 
وبعد الضرب المتواصل للأحزاب اليمنيّة المختلفة، وآخرها الحزب الاشتراكي نتيجة حرب الانفصال 1994؛ تعاورت هذه الأحزاب عمليّة تحلل بطيء، عبرت عنها "هجرة" بعض كوادرها القياديّة إلى حزب المؤتمر، الذي أصبح طريق أي كادر حزبي نحو الترقي الوظيفي والسياسي.
 
وقد ساعد في هذه العملية أيضًا تعدد الهيئات والقطاعات الحزبية المترهلة للمؤتمر، بين مؤتمر عام ولجنة دائمة ولجنة عامة وغيرها. وبعد البدء العملي في لبرلة الاقتصاد عام 1995، ومأسسة الفساد المالي والإداري في جهاز الدولة؛ أصبح حزب المؤتمر طريق السياسيين المفتوح نحو المال والثروة، وليس فقط الجاه المعنوي والسياسي.
 
حزب الرئيس
في عام 2001، كان نظام صالح قد حقق بعض الاستقرار بتقديم تنازلاتٍ كارثيّة للخارج، مثل تسليم الأراضي اليمنيّة للسعوديّة. أما داخليًا، فقد تواصلت سياسات اللبرلة الاقتصاديّة، وتم طوال عقد التسعينيّات التخلص من أغلب الشخصيات العسكرية القوية في النظام، وتركزت تدريجيًا قيادة المؤسسات الأمنية والعسكرية في آل صالح تمهيدًا لإكمال خطوات التوريث، وانضم التجمع اليمني للإصلاح إلى المعارضة.
 
ونتيجة لهذه المتغيرات، تحوّل المؤتمر من حزب السلطة إلى حزب الرئيس؛ فتركُّز كل القيادات العسكرية والأمنيّة في عائلة صالح أدى إلى إضعاف أي إمكانيّة لتكوّن تيارات داخل حزب المؤتمر، يمكن أن ترتبط بمراكز قوى في النظام تدفع الرئيس إلى إحداث توازنات داخل الحزب للحفاظ على استقرار النظام والسلطة.
 
كان من الطبيعي إذن أن تتم تصفية الجناح المتصدر في الحزب، والدفع نحو تقوية جناح آخر يلبي شروط المرحلة الجديدة، وبدأ ذلك فعلًا عام 2001 بتغيير حكومة عبد الكريم الإرياني وتعيين عبد القادر باجمّال رئيسًا للحكومة، وتعيين عبد العزيز عبد الغني رئيسًا لمجلس الشورى، وهذا المجلس هو "سيبيريا" البيروقراطيّة التي ينفي إليها صالح من يريد إنهاء مشواره السياسي من رجاله وكوادر حزبه.
 
تجدر الإشارة هنا إلى أن علامات التصفية السياسية لأي أجنحة أو شخصيات سياسية في حزب المؤتمر لا تظهر في المناصب الحزبيّة بالدرجة الأولى، بل في المناصب الحكوميّة؛ فمكانة الشخصيّة السياسيّة المؤتمريّة لا تنبع من موقعها الحزبي مثل بقية الأحزاب، بل من مدى قربها من الرئيس، وهذا المدى يقاس بالمنصب في جهاز الدولة.
 
وقد اعتمد صالح -في هذه المرحلة- على شخصيّات جنوبيّة مؤتمريّة (كانت غالبًا من كوادر دولة اليمن الديمقراطي) لإدارة شؤون المؤتمر، ولإعطاء انطباع تضليلي بوجود توازنات مناطقية في السلطة، ومنها عبد القادر باجمّال وأحمد بن دغر وعلي مجوّر وعارف الزوكا. وقد استمرت هذه الصيغة منذ إعلان حكومة باجمّال وحتى مقتل صالح.
 
بعد تنحي صالح عن الحُكم وتشكل حكومة الوفاق الوطني، بدأت محاولات صالح لاختلاق صفة مؤسسيّة في حزب المؤتمر، بل وحتى على المستوى الرمزي أُجريت بعض الإزاحات، مثل الاحتفاء سنويًا بذكرى تأسيسه.
 
ولهذه الممارسة الأخيرة دلالة رمزيّة؛ فقد كان إعلام النظام يحتفي كل عام بذكرى تولي صالح الحكم بينما هُمشت ذكرى تأسيس المؤتمر، في تطابق بين واقع توازن القوى والخطاب المعبر عنه. ولكن بعد تنحي صالح، ورغم بقاء كل مراكز القوة بيده؛ فإنه احتاج لإنعاش المؤتمر كمؤسسة حزبيّة لكونه هو مدخله الشرعي الوحيد للممارسة السياسيّة.
 
ولكن أكبر اهتزاز أصاب المؤتمر قياداتٍ وقواعدَ هو تحالف صالح مع الحوثيين، لأن هذا التحالف ضرب الأساس الأيديولوجي الغائر في الفضاء العام الناتج عن ثورة سبتمبر/أيلول 62، وهو الجمهوريّة.
 
صحيحٌ أن نظام صالح هو أحد أكثر الأنظمة "ملكيّة" بين الجمهوريّات العربيّة، إلا أن التحالف مع الوريث التاريخي للحكم الطائفي والعرقي في اليمن كان ضربا مباشرا للحد الأدنى من التوافقات السياسية الضمنية في المجتمع.
 
وهنا فقط رأينا قياداتٍ مؤتمريّة مهمة من الجناح الذي ساد في مرحلة التأسيس تنشق عن صالح وتقف مع الرئيس هادي، وأهمها عبد الكريم الإرياني، في حين أن غالبية القيادات التي جاءت في المرحلة الثانية بقيت مع صالح حتى النهاية.
 
مآلات المؤتمر
قُبيل مقتل صالح، وبعد محاولته تسويق وهم المؤسسيّة في الحزب؛ حاول بعث أيديولوجية جمهوريّة لاستقطاب أنصار وقواعد اجتماعيّة في مجابهته المحتملة مع الحركة الحوثيّة، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل لأسباب كثيرة، منها هزيمته السريعة التي انتهت بمصرعه، ومنها أن الممارسات المنهجيّة -التي شكلت حقل التفاعل في الحزب طوال ثلث قرن- لن تزول بخطابات شعبويّة دعائيّة في شهر أو شهرين.
 
بعد مقتل صالح، انتهى حزب المؤتمر الشعبي العام كما نعرفه منذ 1982؛ فحزب السلطة متغيِّرٌ تابع، ثم إن رحيل الشخصية المتسلطة التي تفرض الحدود على مكونات بناء سياسي يسير بالفساد والانتهازيّة ويعتمد على إمكانات الدولة، "يُحرر" كل النزعات الانتهازيّة والمصلحية -وحتى الأيديولوجية إن وجدت- من ضغط "الزعيم" وسلطته. وهكذا رأينا بعد أيام قلائل من مقتل صالح وجود ثلاثة أجنحة في المؤتمر على الأقل:
 
جناح الرئيس هادي، وهو حاليًا الأقوى من الناحية الرمزية لكونه يتفق مع الصفة التاريخية للمؤتمر كحزب سلطة، ولأن أغلب رموزه مسؤولون سابقون في عهد صالح، ولكنه عمليا ضعيف لعدم تمكن سلطة هادي من فرض نفسها على شكل بيروقراطية ذات كفاءة ومؤسسات أمنيّة وسياسية فعّالة.
 
وجناح صنعاء، وهو الجناح الذي انتخب مطلع يناير/كانون الثاني الجاري -تحت سلطة الحوثيين- صادق أبو راس رئيسًا لحزب المؤتمر، وأبدى بيانُه دعمًا للحوثيين دون الإشارة إلى مسؤوليتهم عن مقتل رئيس الحزب وأمينه العام عارف الزوكا!
 
إن موقف هذا الجناح يُفسّر بعدة أمور، أهمها الخوف من قمع حركة طائفيّة لم تكتفِ بتصفية صالح -وهو قائد لقوات عسكرية في نهاية المطاف- بل وأعدمت شخصية سياسية مدنيّة (الأمين العام لحزب المؤتمر).
 
ولا يبدو رفض هذا الجناح لضغوط الحوثيين واردًا، لأن الحركة الحوثيّة شنت -منذ بدء الاشتباكات مع قوات صالح- حملات تخوينيّة لحزب المؤتمر، جعلتها مقدمة تبريريّة لقمع أي تحرك سياسي مؤتمري يخالف السياسات الحوثيّة.
 
كما أن في المؤتمر قطاعًا يعتقد أن الحوثيين سيحتاجون إلى الحزب على الأقل كشريك سياسي ديكوري أمام القوى الدوليّة، وهذا أفضل المُتاح. وفي الحزب كذلك قطاعات ذات نزعات جهويّة وطائفيّة ترى في الحركة الحوثيّة قيادة مقبولة.
 
وفي الخارج؛ هناك جناح ثالث لحزب المؤتمر يتبع للإمارات، وأغلب الهاربين المؤتمريين من صنعاء -بعد مقتل صالح- ينضوون تحت لواء هذا الجناح؛ فالإمارات كانت تراهن على صالح لإدارة شمال اليمن.
 
وبعد مقتل الأخير؛ ما زالت الإمارات ترى لحزب المؤتمر وظيفة أمنية في الشمال تشابه وظيفة السلفيين الحراكيين التابعين لها في الجنوب: قوة سياسية لها قواعد اجتماعيّة يمكن دعمها ماليًا وعسكريًا، لإدارة شمال اليمن وضمان المصالح الإماراتيّة فيه، متجاوزة بذلك السلطة المفترضة لحكومة هادي.
 
ويبدو أن جناح صنعاء يُراهن على دور مستقبلي ممكن إذا تغيرت توازنات الواقع، واستطاع جناح الإمارات -بالتعاون مع التجمع اليمني للإصلاح- فرض تسوية سياسية معينة على الحوثيين، وما يغيب عن كلا الجناحين (الصنعاني والإماراتي) هو أن وظيفيّة المؤتمر لم تكن نابعة من قواعد اجتماعيّة أو بناء سياسي.
 
كما أن شمال اليمن ليس خاليًا من اللاعبين السياسيين والاجتماعيين لكي يُملأ آليًا بحزب المؤتمر بمجرد ضعف الحركة الحوثيّة! فثمة لاعبون كثر، وهم أقوى وأشد تعقيدًا من نُظرائهم في الجنوب.
 
وعلى كل حال، لا تبدو كل هذه السيناريوهات قادرة على بعث المؤتمر الشعبي العام كحزب سياسي؛ فبعث الأحزاب السلطويّة يحتاج أكثر من الدعم وتوزيع الأدوار: يحتاج سلطة فاسدة تُسخّر إمكانيات الدولة لصالحه، وتعوّض فشله التاريخي وخواءه الأيديولوجي بجعله منفذًا للترقي المادي والاجتماعي، وهذا كله -بالنسبة للمؤتمر- قد ولّى مع رحيل صالح وتفكك سلطته.
 

*الجزيرة نت

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر