شهدت مناطق غربي المحيط الهندي، وخليج عدن، وجنوبي البحر الأحمر، خلال العشرية الأولى من القرن الحالي، تناميا كبيرا في نشاط القرصنة، والسطو المسلح على السفن؛ حيث برز ذلك بشكل مقلق قبالة السواحل الصومالية التي تطور الأمر فيها، متخطيا النمط التقليدي للقرصنة، القائم على السلب، إلى اختطاف السفن، وفرض الفديات المالية، مقابل الإفراج عنها، وذلك على نحو ما حدث مع ناقلة النفط "سيريوس ستار"، التابعة لشركة أرامكو السعودية، التي اختطفت أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، ثم أفرج عنها بعد شهرين من المفاوضات، مقابل دفع ثلاثة ملايين دولار.
 
في الوقت الذي أفرج فيه القراصنة عن السفينة، كانت المنظمة البحرية الدولية تحضّر لعقد اجتماع دون إقليمي في جيبوتي، لمواجهة نشاط القرصنة، يضم دولا من غربي المحيط الهندي، والبحر الأحمر، وقد نجحت في دفع 17 دولة إلى حضور الاجتماع، وتبني صك قانوني أطلق عليه "مدونة السلوك بشأن قمع القرصنة، والسطو المسلح، اللذين يستهدفان السفن في غربي المحيط الهندي وخليج عدن"؛ حيث بادر إلى التوقيع عليها، في 29 يناير/ كانون الثاني 2009، مندوبو تسع دول: إثيوبيا، وتنزانيا، وجيبوتي، وسيشيل، والصومال، وكينيا، ومالديف، ومدغشقر، واليمن، ثم ارتفع العدد إلى 21 دولة، بعد أن وقعت عليها إرتيريا، والأردن، والإمارات، وجزر القمر، وجنوب أفريقيا، والسعودية، والسودان، وعمان، ومصر، وموريشيوس، وموزمبيق، علاوة على فرنسا التي تتمتع بحق الحماية لجزيرة ريونيون الواقعة شرقي مدغشقر في المحيط الهندي.
 
على الرغم مما يثار بشأن المدونة، أنها ليست سوى "قانون ليّن"، إلا أنها أتاحت لدولها، خلال السنوات الثماني التي سبقت عام 2017، بلوغ مستوى جيد من التعاون المشترك، في مواجهة تهديدات القرصنة، والسطو المسلح على السفن، من خلال آليات التعاون التي حدّدتها، مثل: تبادل المعلومات، والتدريب، وبناء القدرات، وتعزيز إنفاذ القانون، جهدا رديفا ومكملا لجهود دولية أخرى، نظمتها قرارات صادرة عن مجلس الأمن، كالقرار 1816 لعام 2008، الذي أجاز للدول المتعاونة مع الحكومة الانتقالية الصومالية دخول سفنها الحربية إلى البحر الإقليمي الصومالي، لتعقب القراصنة، وإحالتهم إلى الهيئات القضائية المعنية بذلك.
 
في ضوء ما تحقق من تراجع في نشاط القرصنة والسطو المسلح على السفن، ذهب بعضهم في تفسير ذلك إلى لجوء قراصنة صوماليين كثيرين إلى ممارسة أنشطة أخرى غير مشروعة، تندرج في إطار "الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية"، أو ما يطلق عليها في الوثائق الدولية "الجريمة المنظمة عبر الوطنية"، سواء مورست هذه الأنشطة في المجال البحري، أو انتقلت من خلاله إلى الجزء القاري، ومن ذلك: تهريب الأسلحة، والمهاجرين، والاتجار في المخدرات، والبشر، وممارسة الصيد غير القانوني، وغير المبلغ عنه، وغير المنظم، وتلويث البيئة البحرية، وسرقة النفط، وغيرها من الأنشطة غير المشروعة في البحر. وتداخلت هذه الجرائم في ما بينها من جهة، مع جريمة القرصنة، والسطو المسلح على السفن من جهة أخرى، لتصبح المنطقة الممتدة من مضيق هرمز إلى شمال مضيق باب المندب، مرورا بغربي المحيط الهندي، طريقا لتهريب شحنات المخدرات، والأسلحة، والمهاجرين غير الشرعيين، والصيد غير المشروع.
 
بحلول عام 2017، تمكّنت المنظمة البحرية الدولية، بالتعاون مع بعض دول مدونة جيبوتي 2009، من توسيع المجال الوظيفي لهذه المدونة، ليشمل مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية من خلال البحار، والتصدّي للإرهاب البحري. وقد اعتُمد هذا التحديث، في المؤتمر الذي اختتم أعماله في جدة، في 12 يناير/ كانون الثاني 2017. وبذلك أصبحت المدونة توصف بـ"مدونة السلوك المعدَّلة المتعلقة بقمع القرصنة، والسطو المسلح، الذي يستهدف السفن، والنشاط البحري غير الشرعي، في غربي المحيط الهندي وخليج عدن"، أو "مدونة جدة المعدِّلة لمدونة جيبوتي - 2017"، معتمدة في ذلك على الأدوات التنفيذية للمدونة السابقة، وهي: ثلاثة مراكز لتبادل المعلومات، تقع في صنعاء، ومومباسا، ودار السلام، وجهات اتصال وتنسيق وطنية في كل دولة طرف، ومركز تدريب بحري في جيبوتي، ووحدة ارتباط تقع في مقر المنظمة البحرية الدولية في لندن، فيما تقوم السفن في عرض البحر، حال تعرّضها لتهديد ما، أو ما يحتمل أن يكون كذلك، بإبلاغ أي من مراكز تبادل المعلومات، في النطاق الجغرافي لواقعة التهديد.
 
في منطقة عمل المدونة، الملتهبة بالصراعات المسلحة، وانهيار هياكل الدول، وتنازع أمرها بين جماعاتٍ مسلحةٍ مختلفة، كما هو الحال في الصومال واليمن، تصاعدت بعض أنماط الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وجرائم الإرهاب في المجال البحري، لتشكل تهديداتٍ أمنيةً غير تقليدية، فشلت أدوات الأمن الخشن في احتوائها أو التقليل منها، وأكدت، بما لا يدع مجالا للشك، أن لا غنى عن أدوات "الأمن الناعم"، في مواجهتها، من خلال إرساء دعائم التنمية فيها، لكن ذلك لن يتم إلا بإحلال السلام أولاً، خصوصاً مع تحول هذه الأنشطة إلى تحدياتٍ مزمنة لدول المنطقة عموماً، وتهديدات أمنية تفتك بمصالح دول أخرى من خارجها، كالتي تتعلق بإمدادات الطاقة، وصناعة النقل البحري، علاوة على تزايد موجات الهجرة غير الشرعية، وتهريب المخدرات.
 
من هذا المنطلق، يُنتظر من الدول الأطراف في المدوّنة الجديدة، والدول والمنظمات الداعمة لها، التعامل مع جريمة القرصنة، والجرائم المنظمة العابرة للبحار، كمصفوفة واحدة، ومن دون تمييز؛ فما يبذل من جهود في مكافحة القرصنة، وتهريب المهاجرين والمخدرات، يجب أن توازيه جهود مماثلة لمكافحة الصيد غير المشروع، والتخلص غير القانوني من النفايات السامة، قبالة السواحل الصومالية، وقمع عمليات تهريب الأسلحة إلى الجماعات المسلحة في الصومال واليمن، غير أن مصالح قوى النفوذ الإقليمية والدولية، والمصالح المقابلة لبعض الدول المستهدفة، لا تزال طاغية على ضرورات الأمن، وذلك ما يؤكده واقع الحال في اليمن ودول القرن الأفريقي.
 
لننظر، مثلا، إلى إرتيريا الواقعة تحت طائلة قرار مجلس الأمن رقم 1907 لعام 2009، والذي يحظر بيع (وتوريد) الأسلحة والأعتدة العسكرية إليها، ففي حال التوقيع والتصديق على المدونة الجديدة، فإنها ستخضع للالتزامات التي أقرّتها تجاه تهريب الأسلحة، وهو أمر غير متوقع منها؛ لأنها ما برحت أن تحرّرت، نسبيا، من قيود قرار الحظر، بالسماح لدولة الإمارات باستغلال مناطق من أراضيها لأغراض عسكرية، بما يتيح لها، بطريقة غير مباشرة، فرصة للحصول على الأسلحة، وما يتصل بها من المسائل العسكرية المشمولة بالحظر، وهو ما يعني، في الوقت نفسه، إخلال دولة الإمارت بالتزامها تجاه نصوص المدونة، بوصفها عضوا فيها، فضلا عن كونه خرقا لقرار الحظر، بشهادة تقرير فريق الرصد الأممي المعني بالصومال وإرتيريا، المقدم إلى مجلس الأمن في ديسمبر/ كانون الأول 2017.
 
ومع تنامي التوغل الإماراتي، في مجال صناعة النقل البحري، جنوبي خليج السويس، وخليج عدن، عن طريق الاستثمارات الطويلة الأجل لمؤسسة موانئ دبي العالمية، في موانئ الصومال، ومحاولة استئثارها بموانئ يمنية، مثل: المُكلّا، وعدن، والمخاء، والحديّدة، وجزيرة سقطرى، ووجودها العسكري في جزيرة ميون (بريم)، فقد يكون ذلك مبرّرا لموقف مصر والسودان، من مؤتمر جدة 2017، وهي مواقف لا يمكن أن تفسر بعيدا عن القول إنه تمرد على مساعٍ ملتوية لتحويلهما إلى مجرد دول حارسة لمصالح سواها.
 
في اتجاه آخر، تتمتع إيران بمصالح متشابكة مع مجموعة من الحلفاء الإقليميين من غير الدول، من جماعات مسلحة، وحركات ثورية، كالحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، التي تمدها بالأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى، مع كونها ليست طرفا في المدونة، ولم يعثر لها من جهد في المحطات المختلفة لوجودها، سوى حضورها مراقبا في مؤتمر جيبوتي 2009.
 
وبالتالي، يفسّر وجودها خارج المدونة موقفها تجاه مصالح أمنها القومي التي تطغى على ضرورات الأمنين الإقليمي والدولي، ويُبرز حدة التنافس بينها وبين جيرانها، مع ما قد يحدثه عدم وجودها في المدونة من فجوة كبيرة في مجال مكافحة الجريمة المنظمة، ليس في مكافحة تهريب الأسلحة فحسب، بل ومكافحة تهريب المخدرات التي تصدّر من أراضيها، وتلك التي تتسلل إليها من أفغانستان، لتنتقل عبرها إلى دول إخرى.
 
هكذا تبدو مدونة سلوك جيبوتي المعدلة لعام 2017 ضرورة أمنية، لمواجهة التهديدات التي تخلفها الأنشطة غير المشروعة الممارسة في المجال البحري لمنطقة غربي المحيط الهندي، وخليج عدن، أو العابرة من خلاله، فيما ينتظر من دولها إثبات ذلك عمليا، إذا ما تجاوزت القيود التي تفرضها المصالح الأنانية والمتعارضة، أو مصالح الدول الواقعة في محيطها، فضلا عمّا يكتنفها من خلل لم يقف هذا المقال عليها، لعل من أبرزها مسألة مكافحة الإرهاب البحري الذي أدرج ضمن مجالاتها، من دون تحديد كافٍ ووافٍ لمعالمه، وذلك ما قد يزيد من حدة الخلاف حوله، فوق ما يكتنفه من خلافٍ سابق حول مفهومه، وآليات التعامل معه، إقليمياً، ودولياً.
 

*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر