على الأقل ليس الآن.. ولكن البديل قد يكون أسوأ، كأن تسود المنطقة نماذج الدولة الهشة (fragile state) والفاشلة (failed state) وحتى نموذج أشباه الدول (quasi state)، إن لم ينتصر العرب لأنفسهم في الوقت المناسب، ويتجنبوا مصيرا كهذا.. ولكن كيف يمكن ذلك؟

يصادف هذا العام الذكرى السنوية المئة لتفاهمات سايكس بيكو السرية التي تمت في 16 مايو/أيار 1916 بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية وبالتحديد في منطقة الهلال الخصيب. ثم ما لبثت أن توجت هذه التفاهمات باتفاقيات دولية رسمية بمؤتمر سان ريمو عام 1920.

لا سايكس بيكو جديدة

ومع تردي الأوضاع العربية في الوقت الحالي يراود العديد من المهتمين تخوف مشروع -ربما بسبب انعدام الثقة في القوى الدولية- بأن تقسيما جديدا لعدد من الدول العربية يلوح في الأفق، ورغم ذلك هناك العديد من العوامل التي لا تؤيد سيناريو التقسيم وإعادة رسم الحدود أو ما يمكن تسميته سايكس بيكو جديدة أهمها:

أولا: طبيعة النظام الدولي؛ إذ مع حالة الفوضى التي تسوده والتحول في موازين القوى الدولية هناك صعوبة شديدة في اتفاق هذه القوى على قضية شائكة جدا مثل إعادة ترسيم الحدود.

لقد حكم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 نظام دولي قام على ثنائية قطبية ما لبثت أن تحولت إلى أحادية قطبية بعد انهيار المنظومة الشرقية عام 1990، حيث أصبحت الولايات المتحدة القوى الرئيسية الوحيدة القادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي والحسم في قضايا مثل إعادة ترسيم الحدود وحل النزاعات الدولية المستعصية كما في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها الكثير.

ولكن بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 والغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق دخل النظام الدولي منعطفا لم يخرج منه حتى هذه اللحظة؛ حيث سيطرت حالة من الفوضى على النظام الدولي لجأت في ظلها الدول الكبرى خاصة إلى تصفية حساباتها مع غريماتها دون الاستناد لشرعية دولية ودون وجود مقرر شرعي في حالة الخلافات التي شهدتها الساحة الدولية كما فعلت أميركا مع أفغانستان والعراق وهاييتي، وروسيا مع جورجيا وأوستيا الجنوبية وأكرانيا.

انقسمت آراء المحللين السياسيين حيث يجادل العديد منهم بأن الولايات المتحدة ما زالت تحافظ على وضعها ضمن نظام أحادي القطبية، بينما يرى آخرون أن النظام الدولي قد انتقل فعلا إلى نظام متعدد الأقطاب والقوى، وأن أميركا ليست سوى إحدى تلك القوى.

هذا الجدل لم يحسم بعد؛ ومما يزيد من تعقيده عدم الإجماع لدى المراقبين للسياسة الخارجية الأميركية على سبب التراجع الحاصل فيها، هل هو مرتبط بإدارة الرئيس أوباما شخصيا الذي يميل إلى الانعزال عن النزاعات الدولية، أم هو حالة ثابتة، بغض النظر عن الحزب الحاكم في واشنطن، وأن انحسار التدخل الخارجي الأميركي -كما في سوريا وأكرانيا- هو حقيقي وليس تكتيكي.

بالمحصلة النهائية فإن غياب الاستقرار في النظام الدولي يجعل من الصعوبة بمكان للقوى المكونة له التوصل إلى سايكس بيكو جديدة مقارنة بالنظام الدولي الذي ساد عام 1916 وسان ريمو1920 الذي انجلت فيه حالة التحول في النظام الدولي وخرجت بموجبه بريطانيا وفرنسا كدول منتصرة قوية ومستعدة لتقاسم التركة العثمانية تعترف كل قوة منها بقوة الطرف الآخر وتحترم مناطق نفوذه؛ الأمر الذي ساعد على جلوس ممثلي الدولتين لتقاسم مناطق النفوذ على الخارطة وبالمسطرة والقلم.

ثانيا: يختلف الوقت الراهن عما كان عليه الحال عام 1916 بوجود لاعبين أساسيين وفاعلين على الأرض تشكلوا على أسس طائفية وإثنية وسياسية وحزبية وأيديولوجية، ومن غير الممكن للقوى الدولية أن تقوم بإعادة ترسيم الحدود باتفاقية سايكس بيكو جديدة دون التنسيق المباشر مع هذه القوى وهو أمر غير ممكن في الكثير من الحالات نظرا لاختلاف أجنداتها وحالة العداء غير المسبوق فيما بينها وغير ذلك من الأسباب.

فهناك تنظيم الدولة والتنظيمات الكردية المتعددة في العراق وسوريا وميليشيات الحشد الشعبي وجبهة النصرة والقاعدة والقبائل المتعددة في اليمن وليبيا وغير ذلك من القوى، ومن شبه المستحيل الجمع ما بين هذه التنظيمات على طاولة واحدة سوية مع الطرف الدولي للاتفاق على شكل الحدود الجديدة. وفي الوقت ذاته من المستبعد أن تستطيع هذه القوى المحلية إعادة ترسيم الحدود بنفسها وبمعزل عن التوافق الدولي على الحدود الجديدة.

إن الساحة الدولية مليئة بالأمثلة الفاشلة لمثل هذه المحاولات؛ فهناك شمال قبرص التي انفصلت بدعم تركي عام 1974 ولم تستطع نقل هذا الانفصال خطوة واحدة إلى الأمام باتجاه إقامة دولة معترف بها دوليا وهي تفاوض الآن من جديد من أجل العودة إلى الوحدة مع قبرص اليونانية. كذلك هناك إقليم ناغورني كاراباخ الذي انفصل عن أذربيجان عام 1994 ولم يستطع هو الآخر ترجمة ذلك لدولة معترف بها دوليا.

عامل آخر يعمل ضد التقسيم هو موقف الأنظمة العربية الرسمية التي تخشى أن ينتقل تقسيم دولة ما مثل سوريا إلى حالات أخرى قد يكون من الصعب تجنبها.

بدائل أكثر خطورة

على أية حال فإن البدائل لسايكس بيكو جديدة قد تكون أكثر خطورة على المستقبل العربي أولها التقسيم بحكم الواقع (de facto partition) بحيث يصبح لدينا بهذه الحالة ما يسمى بالدولة الفاشلة (failed state) وهذا النمط يهدد دولا مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، ويحدث هذا النوع من التقسيم عندما تطول فترة الانفصال ويتحول المؤقت إلى دائم وتعجز القوى المحلية والدولية عن تغيير الواقع.

التقسيم الجغرافي الناتج عن الحروب يصاحبه تشكل هويات واقتصاديات جديدة تصبح فيما بعد عائقا أمام الوحدة الوطنية للدولة. الخطورة بهذا النوع من التقسيم إن حصل أنه سيتم على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية أو غيرها بحيث تصبح الدولة مقسمة بنيويا على أرض الواقع ولكنها تبقى دولة بالشكل فقط فاقدة لأهم مكون لها وهو المتمثل باحتكار القوة.

النمط الثاني للدولة العربية المحتملة هو الدولة الفيدرالية القائمة على أنقاض الدولة المركزية؛ النظام الفيدرالي بحد ذاته لا يعني دولة ضعيفة بالضرورة فهناك أكثر من 27 دولة فيدرالية في العالم من بينها الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وغيرها، ولكن المشكلة هنا أن الدولة الخارجة من صراع دموي كحالات سوريا واليمن وليبيا والعراق قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للبلاد أو إنشاء دولة فيدرالية على أسس طائفية أو عرقية، وهو ما سيبقيها حبيسة لصراعات قادمة طويلة لا تنتهي، وإن لم تقسم لاحقا قد تتحول إلى دولة هشة (fragile state)، ولكن بالمقابل فإن نجاح النظام الفيدرالي حتى بعد مرحلة الصراع تبقى قائمة.

النمط الثالث وهو ما يسميه أستاذ العلوم السياسية روبرت جاكسون الذي درس نشوء الدول في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية (أشباه الدول ( وهي التي تفرض حكوماتها السيطرة على حدودها ولكنها تفتقد للقدرة التشغيلية للدولة وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من المجموعة الدولية مثل مصر في الوقت الحالي على سبيل المثال لا الحصر.

المستفيد الوحيد من إعادة التقسيم أو فشل الدولة العربية بأي من أنماطها الثلاثة السابقة هو إسرائيل التي تعني تجزئة الدول بالنسبة لها إقامة دول على أسس طائفية وعرقية مختلفة تنشأ معها وتخرجها من عزلتها بالإضافة إلى أن تفكيك الدول الكبرى مثل سوريا تضعفها إستراتيجيا أمام دولة الاحتلال.

على العرب أن يعوا تماما بأن التقسيم والفيدرالية واللامركزية والدولة الهشة وشبه الدولة ليست أقدارا محتمة على الدولة العربية بل هناك الكثير من الحلول التي تخلق دولة صلبة قادرة ليس فقط على مواجهة تشتت الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية بل المخططات الخارجية سواء كان ذلك بسايكس بيكو أو سان ريمو جديدين.

الحلول موجودة بين أيديهم وبإمكانهم درء كل المخاطر التي تهدد حيوية الدولة، وأهمها إنشاء دولة المواطنة التي تقوم على عقد اجتماعي جديد يتضمن إصلاحات سياسية واسعة وليست تجميلية، وإرساء قواعد الحكم الجيد والمساءلة وإيجاد قدر معقول من التنمية.. هذه ليست معجزات سياسية ولكنها مطالب شرعية لمواطني تلك الدول أولا، وأسس ضرورية لإقامة حكم يستبدل حالة الفوضى التي تعيشها الدولة العربية.

التنوع العرقي والطائفي الذي تعيشه دول مثل سوريا والعراق يجب أن ينظر إليه كمصدر قوة وليس مصدر ضعف في إطار دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون.

* أستاذ الأزمات الدولية بجامعة جورجتاون

المصدر : الجزيرة

مشاركة الصفحة:

اقراء أيضاً

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر