شهوة البوح واحترام الخصوصية


أنور العنسي

فاصلٌ رفيعٌ لا ينبغي تجاوزه بين حاجتنا إلى البوح بما قد تفيض أو تضيق به دواخلنا من آلامٍ وآمال، وبين الانكشاف بخلجات أنفسنا أمام الآخر بما قد نفقد معه احترامه لخصوصياتنا.
 
البوحُ بتعبيرٍ بسيطٍ آخر، هو حاجةٌ غريزيةٌ وإنسانيةٌ وصحيةٌ للتخفف من ضغط الحياة على النفس، في الوقت وبالقدر المناسبين، بدلاً من الكبت وحبس المشاعر، لكن تخطيه إلى فتح كتاب حياتنا أمام قراءات خاطئة، فيه خطر على شأننا الخاص وأمننا الاجتماعي.
 
يخطئ البعض في الخلط بين هذا وذاك، باندفاع وحماس شجعت عليه سهولةُ الاستخدام الحر لهذا لفضاء المجاني الذي وفَّرَتْه وسائل التواصل الاجتماعي بكل اشكالها.
 
يحدث ذلك دون وعيٍ بأن الناس في الغالب لا تفهم ما نريد نحن أن نقوله، بل ما تريد أن تفهم هي مما نقوله.. وبالتالي يتحول الترويح عن النفس بِنِيَّةٍ حسِنة إلى تعَرٍ أمام (البعض) يرى فيه ما يريد أن يراه من مثالب قد لا يكون لها وجود، ويغمض عينيه عما لا يريد لعينيه أن تراه من المناقب ما لها من الحضور ما لا يمكن إغفاله.
 
يكفي بنظرةٍ سريعةٍ إلى بعض المنشورات والصور التي يندفع إلى نشرها بعض الشباب والشابات، بجرأة أحياناً، للتعبير عن آرائهم وأفكارهم، وللردود عليها، لأن نفهم كيف يتحول بعض التعليقات بشأنها إلى نوع من الازدراء والتنمر والبذاءة ينقلب معها هذا الفضاء من وسيلةِ تعارف وتشَارُكٍ واتصال إلى معارك لتجاهل حقيقة الآخر وقطيعةٍ معه بل وانفصال عنه وعن الواقع أيضاً.
 
ومع استخدام البعض لأسماء مزيفةٍ ومعرفات وصور ٍ وهمية أو مستعارة فإن تعثر أو تردد وسائل التواصل الاجتماعي عن كشفها والحد من تجاوزاتها على الخصوصية والذوق العام يكاد يجعل من هذه الوسائل أشبه بمخيمٍ لذوي العُقد ومركبات النقص والضغائن، أو بتعبير أخف مجمع للأمراض النفسية والعقلية.
 
الأخطر من هذا أن يتطور الاستخدام الجنوني غير المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي من قبل البعض إلى تطاول على غيرهم من هواة النشر يصعب الحد منه، وأكثر سوءًا من ذلك أن يتحول الاستمتاع بالتطاول إلى دوام وظيفي عند البعض ما لم يكن قد أصبح إدمانًا يستلزم تدخلاً سريعاً لعلاج أصحابه!
 
في الغرب ثمة رقابة قانونية مرئية وغير مرئية لبعض محتويات النشر الاليكتروني يتم بواسطتها حذف المسيء منها بشكل آلي، وفي حالات تقدم المتضرر منها بدعاوى أمام الشرطة والقضاء يتم تصنيفها كجرائم نشر لا يمكن لمرتكبها تفادي المحاكمة أو الإفلات من العقاب.
 
أما في العالم العربي حيث لا توجد مثل هذه الآلية فنجد أن الذوق العام لدى الأسوياء من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يحل محلها في إبلاغ شكاوى تؤدي في الغالب إلى تقييد حسابات بعض المسيئين، غير أن هذا وحده لا يكفي للحد من تلك التجاوزات ما أدى في حالات كثيرة إما إلى انتحار بعض الضحايا أو إلى الانتقام الهمجي خارج القانون من مرتكبيها.
 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر