لم يعد خافياً ذلك المستوى من التواطؤ الغربي غير الرسمي الذي أوصل صناعة المسيرات لديكتاتورية النظام الإيراني الإرهابي إلى درجة عالية من التدمير، ولتصبح بعد فترة وجيزة نسبياً، السلاح الأكثر فتكاً بيد الإرهابيين في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وصولاً إلى احتلال مكانة مهمة ضمن ترسانة الجيش الروسي في حربه على جارته أوكرانيا.
 
خلال السنوات الماضية، انشغلت بدراسة تقارير خبراء الأمم المتحدة الذين توصلوا إلى نتائج أولية، وعلى استحياء، تشير إلى شركات سويدية وألمانية مرتبطة بمكونات المسيرات الإيرانية التي أسقطت في جبهات الحرب داخل اليمن، أو تلك التي استهدفت الأعيان المدنية والمنشآت النفطية في السعودية والإمارات. ولاحقاً استخدمت مسيرات "الكاميكازي" من نوع "شاهد 136" في عمليات الميليشيات العميلة لإيران في العراق ضد القواعد الأميركية، وعمليات "حزب الله" في لبنان وسوريا.
 
ومع تزايد إرهاب المسيرات الإيرانية على دول المنطقة وانتشارها بيد عملاء طهران، ارتفعت نبرة التصريحات الأميركية المقلقة، حول مخاطرها على الأمن الإقليمي والدولي، في ضوء ما وصفوه بهشاشة قدرات الحلفاء الإقليميين أمام التهديدات القادمة من طهران، إذ صرح الجنرال كينيث ماكينزي القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، قبيل مغادرته منصبه في أبريل (نيسان) الماضي، أمام لجنة الخدمات العسكرية في مجلس الشيوخ، "أن المسيرات الصغيرة والمتوسطة التي تنشرها إيران في متناول أتباعها في المنطقة، تشكل تهديداً مركباً لقواتنا، وقدرات شركائنا وحلفائنا. فهذه هي المرة الأولى منذ الحرب الكورية التي لم نعد نمتلك فيها التفوق الجوي المطلق".
 
ولم تتحدث أميركا عن خلل داخلي يجعل صناعة المسيرات الإيرانية تشكل خطراً حقيقياً على العالم، حتى جاء التقرير الذي نشرته الاستخبارات الأوكرانية نهاية العام الماضي، والذي أكد أن 12 شركة أميركية وغربية أسهمت في صناعة المئات من الطائرات المسيرة التي قصفت البنى التحتية المدنية في أوكرانيا، وأدت إلى تدمير 40 في المئة من إنتاج الطاقة الكهربائية في البلاد.
 
فمن بين 52 مكوناً تتراوح بين أشباه الموصلات، ووحدات الـGPS، إلى المحركات التي تم جمعها في المسيرة "شاهد 136"، هناك 40 قطعة تم تصنيعها من قبل 13 شركة أميركية، فيما تم تصنيع المكونات الـ12 الباقية بواسطة شركات كندية وسويسرية ويابانية وتايوانية وصينية. ومع هذا، فإن الشركات الأميركية تصر على التزامها القانون، ولكن لا يمكنها أن تتحقق من المستفيد الأخير لمنتجاتها.
 
الفأر والجبن الإيرانية
 
بعد أسبوع من التوقيع في فيينا على خطة العمل المشتركة الشاملة، والمعروفة بالاتفاق النووي، بين إيران وعديد من القوى الدولية، في أبريل 2015، كنت في زيارة لطوكيو، وإلى طاولة العشاء التي جمعتني أنا وعديداً من السفراء العرب في نيويورك، مع نائب وزير الخارجية الياباني، حينها، دار بيننا حديث حول الاتفاق الذي تم توقيعه للتو، وطلبت تقييم المسؤول الياباني، والذي أشار إلى سعي الدول الغربية إلى الدخول في السوق الإيرانية التي تحتاج إلى كل شيء وتمتلك فرصاً ذهبية. وأكد أن الشركات اليابانية تتطلع إلى الاستفادة من هذه الفرصة التاريخية التي يوفرها الاتفاق النووي.
 
ولم يُعر الرجل اهتماماً لتعليقي حول خطر وجود دولة مارقة على المصالح الدولية ومصالح اليابان والدول الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة ما يتعلق بنشر أذرعها الإرهابية في اليمن والعراق ولبنان. كان التهافت نحو "الجبن" الإيرانية يستحوذ على تفكير الدول وشركاتها الكبرى للفوز بعقود مليارية لإصلاح هياكل دولة متقادمة، ولم يدرك الغرب أن ذلك النظام لا يمكن الوثوق به، فهو نظام لا يعترف بالقانون الدولي، ولا بميثاق الأمم المتحدة، ولا بشرعة حقوق الإنسان ويقتل شعبه بدم بارد، ويتدخل بشكل سافر في شؤون دول المنطقة، ويعتقد أن ذلك حق إلهي أصيل لدولة النظام الإيراني.
 
ولم يكن مداد الاتفاق النووي قد جف بعد، ولم تكن الدول الأوروبية قد تحققت من أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما سيتمكن من إقناع الكونغرس بالموافقة على الاتفاق، إلا وكانت الوفود التجارية تهبط في مطار خميني في طهران حاملة معها مشاريع كبيرة لتسويقها. وتقول صحيفة "الغارديان" اللندنية في تحقيق نشرته في أغسطس (آب) 2015، إن أول وفد وطئت أقدامه طهران كان ألمانيا برئاسة نائب المستشارة أنغيلا ميركل وعديد من الوزراء، ورجال الأعمال وممثلي الشركات الألمانية.
 
وكان المعروض من "الجبن" الإيرانية أكبر بكثير من أن تقاومه "فئران الاستثمار الأوروبية"، فهناك أكثر من 80 مليون نسمة، وبلد مدمر يحتاج إلى تحديث قطاعيه الصناعي والصحي، وصناعته النفطية المتقادمة، وبعد زيارة الوفد الألماني تقاطرت وفود فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا والسويد وبولندا.
 
وفيما تزايد التهافت على طهران من قبل الشركات الأوروبية، ضغطت الشركات الأميركية على الكونغرس الأميركي، لتخفيف قيود الإدارة لمباشرة العمل مع النظام الإيراني، لأنه من غير العادل أن تكون السوق الإيرانية حكراً على الأوروبيين، وتناسى الجميع عدد الجنود الأميركيين الذين قتلوا بالصواريخ والمسيرات والمفخخات الإيرانية في شوارع بغداد وبقية المدن العراقية، تحت شعار إيران الخمينية "الموت لأميركا".
 
المجتمع الدولي والمعركة ضد النظام
 
وجاءت حرب المسيرات الإيرانية لتدق ناقوس الخطر في البيت الأبيض الذي سارع في تشكيل فريق تحقيق خاص لمعرفة كيفية وصول التكنولوجيا الأميركية والغربية إلى صناعة الصواريخ والمسيرات الإيرانية، على رغم أن جميع الصناعات التابعة للقوة الفضائية التابعة للحرس الثوري، مثل شركة "القدس" لصناعة الطيران، وشركة صناعة الطائرات الإيرانية، و"شاهد" لصناعة الطيران، موضوعة على قائمة العقوبات الأميركية. ويتضح من التعليقات الأولى لتبعات القرار الأميركي، وجود خلل في مراقبة سلاسل التوريد، وتحديداً معرفة الأطراف الثالثة من الموزعين الخارجيين الذين يوصلون هذه المنتجات إلى الحرس الثوري.
 
ومعلوم إن لإيران مئات الشركات الوهمية المنتشرة في أوروبا والأميركيتين لتهريب احتياجات صناعاتها العسكرية والتحايل على نظام العقوبات. ويرى الخبراء الأميركيون أن مهمة التحقيق ستكون في غاية الصعوبة، نظراً إلى تكاثر الشركات الوهمية، وتنقل المنتجات الأميركية عبر مجموعة من الوسطاء والدول قبل أن تصل إلى طهران.
 
وأخيراً، تناولت "الواشنطن بوست" قيام دولة بنما الحليفة لأميركا، بتسهيل تحايل إيران على نظام العقوبات، الأمر الذي سهل لديكتاتورية رجال الدين البقاء لأربعة عقود فوق رقاب الشعب الإيراني، وذلك يعود لوضع بعض الدول لمصالحها الاقتصادية الأنانية فوق مقتضيات السلم والأمن الدوليين. ومنذ عام 2020، قامت هيئة الشؤون البحرية البنمية، وهي أكبر هيئة في العالم تمنح حق رفع العلم البنمي على السفن التجارية وناقلات النفط، بتسهيل رفع العلم البنمي لأكثر من 130 ناقلة نفط إيرانية، لتحقق مكاسب من تهريب النفط الإيراني فاقت 30 مليار دولار خلال 2021، وهذه المليارات التي تكسبها طهران تذهب لتمويل صناعات الصواريخ والمسيرات الإيرانية ولتمويل الإرهاب الإيراني في العالم.
 
ويقول التقرير إن لواشنطن خيارات عدة لمعاقبة بنما، من بينها فتح الكونغرس الأميركي تحقيقاً حول دور بنما في تسهيل التحايل على نظام العقوبات، ووضع كل السفن التجارية وناقلات النفط التي ترفع العلم البنمي في قوائم العقوبات، بما في ذلك مصادرة السفن وتجميد الأرصدة، ومنع الشركات البنمية المتورطة من التعامل التجاري مع أميركا.
 
إن الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها الإدارة الأميركية، تتناغم مع تلك الخطوات التي اتخذها البرلمان الأوروبي لوضع الحرس الثوري وفيلق القدس وميليشيات الباسيج في قوائم المنظمات الإرهابية. وهذه الخطوات يجب أن تتبعها خطوات إضافية لمراقبة المنتجات التكنولوجية الأوروبية التي يتم تهريبها إلى طهران عبر شركات وهمية، مما يحول دون استمرار تطوير صناعة الصواريخ والمسيرات الإيرانية. وما لم يقطع دابر الإرهاب الإيراني ويتم عزل الديكتاتورية الدينية للنظام دولياً، فإن شبح المسيرات والصواريخ الإيرانية سيصل بشكل متزايد، ويهدد أمن القارة الأوروبية واستقرارها.
 

*نقلا عن إندبندنت عربية

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر