دبلوماسية الغرف المغلقة في مسقط حيث تجري محادثات غير مباشرة بين السعوديين وجماعة الحوثي، يبدو أنها وصلت إلى طريق مسدود، بسبب تعنت هذه الأخيرة في فرض مطالب تتأسس على معادلة ثابتة لم تتغير، وهي الحفاظ على المسار الإنساني منفصلاً عن مفاوضات الحل السياسي الذي تريده هذه الجماعة ثنائياً وكفؤا مع السعودية، وبعيداً عن السلطة الشرعية.
 
استناداً إلى ماكينة دبلوماسية مدعومة من إيران ومستشارين متطوعين بحماس في المنطقة، يصر الحوثيون على التمسك بما يسمونه المسار الإنساني كمدخل لتعزيز مكاسبهم السياسية والعسكرية، وتثبيت سلطة الأمر الواقع وتحصينها بالمزيد من الصلاحيات المستقطعة من السلطة الشرعية، وهذا بحد ذاته يمثل حسماً شبه نهائي للحرب لصالح هذه الجماعة المرتبطة بإيران والمنظومة الشيعية الموتورة في المنطقة.
 
وفي المقابل، أخفقت السلطة الشرعية وعلى رأسها مجلس القيادة الرئاسي، في إيضاح الأبعاد الإنسانية الخطيرة الناتجة عن التوقف الكلي لتصدير النفط بسبب الهجمات الحوثية بالطائرات الانتحارية إيرانية الصنع؛ على موانئ النفط وعلى السفن في جنوب شرق اليمن، إلى جانب جرائم الحرب التي تطال اليمنيين في مناطق التركز السكاني الرئيسية خصوصاً في مأرب وتعز، حيث تستمر عمليات القصف العشوائي على الأحياء السكانية، والقنص المتواصل للمدنيين من كل الفئات العمرية، وتستمر عملية حصار تعز بشكل قاس يتصادم مع مضامين العهد العالمي لحقوق الإنسان.
 
حتى اللحظة تسود حالةٌ من عدم اليقين بشأن إمكانية التوصل إلى حلول حقيقية للصراع في اليمن استناداً إلى الحماس الأمريكي وغرفة العمليات النشطة التي يديرها المبعوثان الأمريكي والأممي إلى اليمن، بإسناد قوي من سلطنة عمان التي تستضيف عاصمتها مسقط هذه الغرفة واللقاءات المباشرة وغير المباشرة التي تدور في إطارها.
 
يشعر الحوثيون بأن أهدافهم في تأمين المصاريف التشغيلية لسلطة الأمر الواقع من جانب السلطة الشرعية التي تتخذ من العاصمة السياسية المؤقتة عدن مقراً لها؛ تواجه صعوبات في التنفيذ، بل إنهم يتحدثون عن إعاقات في انسياب سفن المشتقات النفطية والتجارية إلى ميناء الحديدة الرئيس على البحر الأحمر، الذي يشرفون عليه. والأمر هنا يتعلق وفقاً للحوثيين بالتحالف وليس غيره، لذا لجأوا يوم الجمعة الماضي إلى تنظيم مسيرات في صنعاء ومناطق أخرى خاضعة لسيطرتهم، رفعت شعارات تتضمن تفويضاً للجماعة باستئناف الصراع المسلح العابر للحدود، في تلويح صريح بإمكانية توجيه ضربات صاروخية وبالطائرات المسيرة إلى العمقين السعودي والإماراتي.
 
ومن الواضح أن السعودية والإمارات تسعيان بشكل متناغم ومنفصل كذلك إلى استثمار المرحلة الحالية من الصراع الراكد، في تثبيت وقائع ومصالح في المنطقة الشاسعة الواقعة تحت هيمنتهما في جنوب غرب وجنوب شرق البلاد، حيث يجري إحياء مشاريع سياسية مضادة وذات طبيعة انفصالية، تهدف بشكل رئيس إلى إغراق الكيانات السياسية المستحدثة والتشكيلات العسكرية التابعة لها بصراعات عبثية تتأسس على تصورات انفصالية غير ممكنة التحقيق في المرحلة الحالية، لكن يمكن أن تكون جزءا من محادثات التسوية النهائية لمستقبل اليمن إذا قُدّر للبلدين أن يضمنا تطويع الجغرافيا اليمنية وفق لأولويات البلدين.
 
فجأة وبدون مقدمات ومثلما أُعلن قبل ثلاثة أسابيع تقريباً عن توقيع اتفاقية للتعاون العسكري والأمني بين أبو ظبي وعدن، أعلنت الحكومة اليمنية، أنها أقرت "عقداً لإنشاء ميناء قشن المخصص للنشاط التعديني في محافظة المهرة" المتاخمة للحدود العمانية، بكلفة تصل إلى مائة مليون دولار، وضمن قواعد الإنشاء والتشغيل ومن ثم التسليم للدولة اليمنية لكن بعد خمسين عاماً.
 
هذا المشروع أنشأ على الفور أزمة جديدة في هذه المحافظة التي تمثل مجالاً حيوياً للنفوذ بين الرياض ومسقط، فيما تحاول الإمارات تأسيس مصالح مادية قابلة للاستدامة تتوسل الاقتصاد، لكنها تخفي أجندة نفوذ وهيمنة عسكرية وأمنية مستقبلية في هذه المنطقة.
 
فيما يواصل رئيس مجلس القيادة الرئاسي استقبال المبعوثين الأمريكي والأممي في إطار مساعيهما الجديدة لأحياء عملية السلام، فإن الأمر في تقديري يأتي ضمن دور مرسوم بعناية من جانب الرياض ويوحي بأن الأمر في سياقه الطبيعي يجري بين الطرفين المحليين المعنيين بالصراع، وهما السلطة الشرعية وجماعة الحوثي الانقلابية.
 
لكن كل المؤشرات لا تدل على أن السعودية جادة أو حريصة على تحقيق أهداف استعادة الدولة أو دعم الشرعية، فهناك سلسلة من الإجراءات التي فرضتها خلال سنوات الحرب السبعة الماضية، أضعفت الشرعية وشتتها وأخرجتها من المشهد السياسي على النحو البائس الذي نشاهده اليوم، بل إنها أقحمت عبر ما يسمى اتفاق الرياض طرفاً ثالثاً معنيا بأجندة انفصالية صريحة كطرف في التسوية السياسية.
 
لا يشير ذلك سوى إلى حرص الرياض على تسوية الأرضية في اليمن من أجل ضمان أن يبقى هذا البلد أطول فترة ممكنة تحت أنظارها، وضمن شراكة غير متكافئة تعزز أكثر ما تعزز هيمنة الموقف السعودي الجيوسياسي في شبه الجزيرة العربية.
 
هذا التوجه في تقديري يواجه حالياً صعوبات حقيقية بسبب المشروع الجيوسياسي الإيراني الذي يحرز تفوقاً ساهمت الرياض نفسها في تكريسه، عبر تقوية دور الحوثيين ومكانتهم السياسية والعسكرية.
 
كانت الرياض تعتقد أنها بتمكين حلفاء صميمين لإيران، سوف تنجح في توظيف هذه الجماعة الطائفية في تقويض السلطة الانتقالية والعملية السياسية الناتجة عن ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، وفي الوقت نفسه سوف تتسق مع مخططات واشنطن والغرب المتصلة بتكريس المعادلة الطائفية في المنطقة لتعزيز حربها الجيوسياسية المستندة على ادعاءات متواصلة بأن ما يقوم به الغرب إنما يأتي في إطار ما يسمى مكافحة الإرهاب.
 
هو الغموض الذي يصعب معه تحديد ما إذا كان التحالف يمارسه نفوذه الجيوسياسي ضمن تصور يمكنه أن يبقي على وحدة الدولة اليمنية وتماسكها، أم أنه يضع الجغرافيا اليمنية غنيمة يمكن أن تؤول للمقتدر عسكرياً من الأطراف الداخلية والخارجية.

*عربي 21

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر