كل حشد لغير الشعب زائل


مصطفى ناجي

في صباح يوم الخميس الموافق 21 من شهر مايو للعام 2009 وتحت سماء صافية وهبات نسمات ريح صنعائية عذبة كان التلفاز اليمني يبث أنغام الفرقة الموسيقية العسكرية وهي تعزف بحرفية كبيرة موسيقا مهيبة مصاحبة لتقدم ارتالٍ وقطعات رمزية من وحدات الجيش اليمني في ميدان السبعين يوماً الغاص بالحشود.  

 

طائرات المروحية تحوم فوق المكان تحرسه، والكاميرات تتنقل بزوايا هندسية منتظمة تستعرض ابعاد المكان وتضخّمه. كبارات رجالات الدولة واعيان البلاد وضيوف يجلسون على صفوف المنصة الرئيسية يرتدون نظارات شمسية مثبتة على الوجوه الثابتة على الكراسي.   

 

ويقف صالح من وراء ساتر زجاجي غليظ مزهواً يحيي جنوده المشرئبة اعناقهم نحوه وهم يمرون أمامه في الذكرى التاسعة عشرة لتحقيق الوحدة اليمنية.  يجلس الى جوار نائبه عبد ربه منصور هادي متكورا على نفسه كقطٍ شيرازي كسول. 

 

قبلها بثلاث سنوات خاض الرئيس الأسبق صالح انتخابات العام 2006 الرئاسية بروح متأهبة أكثر مما مضى من انتخابات. قبلها بعام او أكثر كان صالح يعد شعبه انه لن يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة لكنه لم يتمكن من الوفاء بوعده ذاك. بل استجاب لمسرحية هزلية تتوسله الترشح ويكون رئيسا الى اخر يوم من حياته المديدة.  

 

امام منافس مدني اختارته المعارضة بعناية، له رصيد نضالي سياسي كبير قادم من محافظة يتسم أهلها بالحكمة والدهاء والطيبة وله قبل هذا سجل خالص النقاء في النزاهة الإدارية والمالية، اضطر صالح الى سكب وعود تنمية أكبر من قدرته على استيعابها والوفاء بها؛ سكة حديد، طاقة نووية، القضاء على الفقر، توفير فرص عمل للشباب، الخ. 

 

لكن أنصاره اضطروا أيضا الى النيل من خصمه في الطعن في صلاحيته للرئاسة présidentiabilité كونه مدني أولا وبلا شارب او كبير السن. وذهبوا الى فبركة ادعاءات تتهم حراسة المنافس بن شملان بأنهم ارهابيون في تلاعب مخزٍ بملف الإرهاب.  

 

مضت الانتخابات وفاز صالح في الانتخابات الرئاسية والمحلية واكتسح منافسيه وابتهج. لكنه كان يعلم انه فوز بطعم الهزيمة. فخزائن البلاد في تناقص بسبب تراجع انتاج النفط. وعدد السكان أكبر من جهود حكوماته المتعاقبة في تلبية احتياجاتهم، وجهوده في الانضمام الى مجلس التعاون تمخضت واتت بمولود هش هو لجان فنية. والمعارضة تتجسر وتتجاسر أكثر وتتجاوز ظاهريا خلافاتها الايدولوجية. 

 

بعد أكثر من عام، توفى الشيخ عبد الله الأحمر لتزداد الهوة بين صالح وأبناء الشيخ ويختل التوازن العسكري القبلي القائم منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي أكثر فأكثر.  

 

يسجل العام 2008 الدورة الخامسة من حروب صعدة بين النظام والمتمردين الحوثيين الذي يتمددون ويكسبون الأرض ويقهرون السكان المخذولين، ويسجل أيضا العام الثاني من احتجاجات الجنوب. لكنه أيضا يقيد عاما جديدا من الفشل في استيعاب المساعدات الخارجية التي كانت مشروطة بإصلاحات إدارية واقتصادية يعجز النظام عن تلبيتها في محدودية فاضحة لتقليص الفساد والمحسوبية.  

 

كان العام 2009 فرصة مناسبة لاستعراض القوة العسكرية امام كل هذه التحديات.  

 

يفتتح العرض بصوت قائد العرض الجهوري الاجش. وتهتز ارض الميدان تحت أقدام الجنود. وصالح يمط رقبته فهو وبنيه الحاكم الأوحد.  يومها قال وزير الدفاع: "أصبحت المؤسسة العسكرية والدفاعية والأمنية اليوم قوة ضاربة في خدمة الشعب لحماية المقدرات والسيادة الوطنية وهذا ما أصبح يستوعبه جيدا أبناء هذه المؤسسة الوطنية الرائدة في المجتمع، الذين يعتبرون جزءا ً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الواحد لأبناء شعبنا اليمني ويمثلون كل محافظات الوطن". 

 

ثم تتقدم الوحدات مختلفة الأزياء؛ برية وبحرية وجوية، سرايا سرايا كأنها مكعبات مسبوكة من الخزف المزجج. ثم تمر أفواج من قطع السلاح الثقيل؛ مدفعية ومدرعات وصواريخ ودبابات.  

 

ثم يمر سرب طائرات عمودية تفزع منه طيور الصباح الوديعة وطائرات أخرى نفاثة تمخر سماء صنعاء وتوشمها بالدخان وقبلها كان قد هبط المظلييون بعد قفزة عالية يحملون علم اليمن وصورة صالح.  

 

كل شيء معدّ بدقة.  

المذيعون يدبجون القصائد الفخيمة تارة تمجيدا للشعب وتارة تمجيدا لصالح وكأن صالح هو الشعب وكأن الشعب هو صالح.  

 

بعد ثلاثة أعوام من ذلك العرض المهيب كان صالح يجلس في بيته في شارع حدة الى جوار هاتفه يطلب مخاطبة هادي والأخير يرفض الرد على الهاتف. اما البلاد فكانت تمور في تخبط وغضب. والجنود يتظاهرون كما لو انهم نقابة عمال سكك حديد يسارية النزعة. اما الطائرات فكانت تسقط واحدة تلو الأخرى على رؤوس الناس في قلب العاصمة صنعاء بعد ان تبين انها من صفقة فاسدة.  

 

ثلاثة أعوام أخرى وقد تشتت تلك الحشود العسكرية وذهب السلاح الثقيل جُعالة للحوثي يتلمضها ويقتل بها صالح ويطارد أبناءه ويشرد السواد الأعظم من اليمنيين.  

 

تبين ان الجيش لم يكن في خدمة الشعب وليس جيشا ولا يحافظ على سيادة وليس له دور وطني. وما كان يقوله احمد ناصر ليس أكثر من رطانة مبتذلة لا يحفظ ولا يفقه مما قال شيئا ولم تكن تعنيه في مؤسسة الجيش سوى عدد علب الفول واكياس الرز التي يمكن اختلاسها.  

 

في بعد ثلاث أعوام اضافية يجر الحوثي وراءه من مدينة الى أخرى ومن ميدان الى آخر قطعا عسكرية وارتالا من الجنود وتحضر فرقة عسكرية وينقل التلفاز العروض تلو العروض التي تمجد مولاها عبد الملك وتتشدق بيمن تقتله من الوريد إلى الوريد.  

 

اخر الحشود على مشارف مدينة تعز. يكذب المارون دوساً على علم أمريكا وإسرائيل وهم يدوس اخر ما تبقى لليمنيين من كرامة وحياة. يحشدون لكل ذكرى وقودها عرق الناس واموال جيوبهم ودماء صغارهم في محرقة لا بواكي عليها الا دموع الأمهات الصادقات وملصق اخضر على سيارات العزاء لقناديل المسيرة.  

 

كان صالح يقف على رأس دولة. يجمع، بكل سوئه، اليمنيين ويترك نصيبا ولو قليلا للآخرين في تجارة واعمال وسفر واعتبار.  جاء غول الحوثي وورث سلاحا مدججا وجنودا يتقاذفهم نحو الموت ويقتلون بدم بارد. جاء يحتكر الشرف والمال والوظيفة والوطن والمجد. اخذ من التاريخ الكثير ما يناسبه ونسى عبرة قريبة العهد. هي عبرة صالح. 

 

*من صفحة الكاتب في فيسبوك 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر